الجمعة ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
باسم خندقجي في حوار مجلة الهدف:

حولنا السجن إلى مدرسة أكاديمية ثورية

حاورته: لمى الشطلي

بعد أكثر من عشرين عاماً قضاها خلف القضبان، خرج باسم خندقجي إلى النور حرّاً، ضمن صفقة "طوفان الأحرار"، وفاءً من المقاومة لعهدها في انتزاع الحرية من براثن السجن والسجان.

خرج الأسير والأديب الفلسطيني الذي جعل من الكتابة درعاً في وجه العزلة، ومن اللغة وطناً يتحدى مساحة الزنزانات وغطرسة السجان.

بعقيدة المثقف المشتبك قاوم السجن وحوّله إلى مختبر ثقافي: مكتبة حية تدعم إبداعات الأسرى وفضاءً لكتابة المقالات والروايات والدواوين. وفي خطوة أكدت مكانته كأحد الأصوات الأدبية الفلسطينية البارزة، حصد جائزة البوكر العربية عن روايته «قناع بلون السماء».
في هذا الحوار مع بوابة الهدف، يتحدث خندقجي عن تجربته المركّبة بين الأسر والكتابة، عن مقاومة السجان ومقاومة العدم، وعن معنى الحرية والانتماء، وعن الهوية التي جسّدتها غزة من جديد، ودور الأدب والثقافة في صياغة تجربة الفلسطيني داخل السجن وخارجه.

حين تعود بذاكرتك إلى لحظة الاعتقال الأولى عام 2004، كيف تروي تلك التجربة اليوم؟ وما الذي شكّل الوعي الأول لديك داخل السجن؟

لحظات الاعتقال كانت قاسية وبمثابة عملية مصادرة لعمر شاب في عنفوان شبابه، لكن ذلك لم يثنِني عن بلورة وعي جديد داخل المعتقل، وهذا الوعي الجديد هو وعي المقاومة والصمود ووعي الاشتباك أيضاً مع السجان المستعمر، بحيث إن مرحلة السجن ليست استراحة مناضل، إنما هي استكمال للحالة الوطنية الفلسطينية من جميع جوانبها.

بعد أكثر من عشرين عاماً خلف القضبان، كيف أصبحت ترى مفهوم "الحرية"؟ وما الذي بقي فيك من الأسر؟ وماذا تركت هناك بين الجدران؟ وكيف كانت الحياة اليومية خلف القضبان؟

مفهوم الحرية اليوم بالنسبة لي هو مفهوم غير مكتمل؛ لا يمكن القول إن الحرية مشروع ناجز تماماً أو تم إنجازه. الحرية اليوم أراها في التفاصيل الصغيرة، في مراقبة هذه التفاصيل وتلمّسها والبحث عنها، والحرية أيضاً هي الدهشة الأولى والصدمة الأولى، كلّ هذا يعبر عن الحرية.

أما ما بقي فيّ من الأسر، فأنا لا أعتقد أن الأسر قد سكن داخلي لكي أقول إن ثمة محددات جلبتها معي من الأسر. أنا رفضت الأسر والسجن منذ اللحظة الأولى، وكنت أرفع شعاراً رفعه الشاعر الشيوعي الكبير ناظم حكمت حين قال: "إنه يعيش داخل السجن، لكن السجن لن يعيش به"، وهذا ما كنت أعتمده داخل السجن.

وبالنسبة للحياة اليومية، فثمة فرق ما بين الحياة داخل السجن والواقع الاعتقالي قبل السابع من أكتوبر من عام 2023 وما بعده. فما قبل ذلك التاريخ كانت السجون في ظروف إنسانية شبه مقبولة، قمنا بإنجازها من خلال الإضرابات الطويلة عن الطعام. وكانت الحياة اليومية خلف القضبان قبل السابع من أكتوبر حياة ملؤها الإرادة والأمل والصمود، قادرين على توفير ظروف إنسانية تكفل أجواء أدبية وثقافية وأكاديمية معينة، وقمنا بتحويل السجن من كونه مجرد سجن وحديد إلى مدرسة أكاديمية وثورية قادرة على إخراج الكوادر الاعتقالية والوطنية والثقافية والأدبية.

لكن انتابني حزن شديد لأنني تركت ورائي العديد من الرفاق والإخوة، ومن المناضلين داخل سجون الاستعمار الصهيوني يعيشون الآن في ظروف قاهرة، غير إنسانية، يعانون فيها من سياسات التعذيب والقتل اليومي.

تحوّل السجن بالنسبة إليك إلى مختبر ثقافي، أنشأت فيه مكتبة وصندوقاً لدعم إبداعات الأسرى. ما الفكرة التي أردت إيصالها من خلال هذا المشروع؟

الهدف من وراء تحويل السجن إلى منتدى ثقافي ودعم إبداعات الأسرى هو إيصال رسالة إلى هذا العالم أن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاستعمار الصهيوني ليسوا مجرد أرقام أو أشياء. لطالما حاول العدو الصهيوني إحالة الأسير الفلسطيني إلى وحش، وإلى إرهابي ومخرّب، وبهذا كان يهدف دائماً إلى نزع إنسانيتنا وتفكيكها ومحو ملامحنا الإنسانية.

ومن هنا كان الدافع وراء بلورة جديدة لمفهوم أدب السجون لتعريف العالم وتسليط الضوء على معاناة الأسرى داخل السجون، والتأكيد على أننا نستحق أن نكون متساوين مع كل هذا العالم.

خضت نضالاً من نوعٍ آخر داخل السجن، من المقالات إلى الشعر ثم الرواية، وصولاً إلى جائزة البوكر عن "قناع بلون السماء". برأيك، ما موقع النضال الثقافي داخل تجربة الأسر؟ وكيف ترى علاقته بالنضال السياسي والعسكري خارجه؟ وأيهما يبقى أكثر حضوراً في ذاكرة التاريخ الفلسطيني؟

الكتابة داخل السجن جزء لا يتجزأ من المقاومة الشاملة ضد هذا المستعمر الصهيوني. عندما يقرر الأسير أن يصبح كاتباً، تتحول كلماته إلى وسيلة اشتباك يومية مع سجّانه، ليصير مثقفاً مشتبكاً يقاوم من خلال الفكر والفعل على حد سواء.

وتصبح الصورة العامة للاعتقال نضالاً ثقافياً وأدبياً يعبر بشكل أو بآخر عن الجبهة الثقافية التي لا يمكن أن تبقى ضعيفة وخامدة. تجربة الأسير عندما يصبح مثقفاً تؤكد أهمية إيجاد التوازن ما بين الكفاحي والأدبي، وما بين الأدبي والنضالي والثقافي والاجتماعي، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مفهوم المقاومة الشاملة.

كما أنني أعتقد أن أهمية الفكرة لا تقل عن أهمية الرصاصة؛ الفكرة أقوى من الرصاص والمدافع. وعليه فإننا كأدباء فلسطينيين يجب أن نقوم بتطوير مفهوم "أدب الاشتباك"، الذي ينخرط ضمن جبهة ثقافية تؤكد على الإجابة عن التساؤل التالي: كيف نكتب أدباً ضد كولونيالي، ضد استعماري، داخل السياق الاستعماري الكولونيالي الصهيوني.

كيف استقبلتم داخل السجون خبر عملية السابع من أكتوبر؟ وما الأثر الحقيقي لعملية “طوفان الأقصى” على واقع الأسرى ومعنوياتهم؟

استقبلنا المبادرة العسكرية والكفاحية الإبداعية التي خاضتها المقاومة في غزة في صباح السابع من أكتوبر بذهول. لم نكن متفاجئين من فعل المقاومة، ولكن حجم وضخامة العملية من الناحية العسكرية ومن حيث تحقيق أهدافها منذ اللحظات الأولى أدهشنا.

وكانت معنويات الأسرى نتيجة عملية "طوفان الأقصى" تعانق النجوم، وكنا على مدار العامين الأخيرين منخرطين انخراطاً تاماً مع المقاومة الفلسطينية، وجزءاً لا يتجزأ من معركة الصمود والمقاومة داخل خندق غزة، وبالتالي كنا على يقين أن هذه العملية ستشي بحريتنا وستقودنا إلى إنجاز هذه الحرية.

قلت بعد نيلك الحرية: "السلام على غزة يوم تقاتل ويوم تصمد ويوم تقاوم هذا الاستعمار. السلام على غزة يوم تبعثنا أحياء من داخل سجون الاستعمار". ما الذي تمثله لك غزة اليوم؟

الذي تمثله غزة اليوم هو الهوية؛ غزة هي هويتي وانتمائي، وغزة تصبح بهذا المعنى الصورة المشتهاة والمستقبل المشتهى.

نعم، هناك آلاف الشهداء والكثير من الدمار والركام، لكن آن لهذا الدمار أن يتحول إلى عملية بناء، آن لتلك الدماء ألا يُضحّى بها.

للأسف، نحن تاريخياً كنظام سياسي فلسطيني لا نَسأم من التضحية بتضحياتنا، وعليه فنحن اليوم بحاجة إلى صورة ورؤية جديدة تكفل الوفاء لتلك الدماء.

وما حدث في غزة لأول مرة يحدث في تاريخ الشعب الفلسطيني، هذه الإبادة الجماعية، يجب اليوم أن نقوم بتمثيلها وعكس تجلياتها في الأدب الفلسطيني تحديداً، لنكتب غزة كما يليق بها.

الطوفان حرّر الرواية الفلسطينية. ما الرواية التي تدور الآن في خلد باسم خندقجي بعدما تنفّس هواء الحرية؟

هناك العديد من المشاريع الأدبية والروائية التي سأعمل على الانشغال بها في الفترة القادمة، لكن العمل الأهم بالنسبة لي هو كتابة رواية عن صديقي الشهيد الرفيق الراحل وليد الدقة.
لقد كتبت هذه الرواية في ذهني وداخل عقلي بسبب مصادرة الأقلام والدفاتر منا خلال العامين الأخيرين، وأنجزت كتابتها الذهنية خلال الستة أشهر الأخيرة من الاعتقال، وسأعمل على تفريغها قريباً.
بالإضافة إلى ذلك، أعمل على الجزء الثالث من ثلاثية "المرايا"، والذي سيكون بعنوان «فراشات مريم الجليلية»

وليد الدقة حاضر في روايتك القادمة... لماذا وليد تحديداً؟ وماذا يمثل لك على الصعيد الإنساني والفكري؟

بالنسبة لي، وليد الدقّة ليس مجرد رفيق أو صديق، إنما هو ملهم. تأثرت به كثيراً، وجمعتني به علاقة إنسانية عميقة على المستوى الشخصي، إذ كنا معاً في الدائرة ذاتها.

وعلى الصعيد الفكري والإنساني، يشكّل وليد حالة فكرية فريدة من نوعها، إذ استطاع أن يؤسّس ويبلور العديد من المفاهيم التي لم تعد حبيسة عالم السجن، بل أصبحت جزءاً من تحليلنا العام للسياق الكولونيالي الذي نعاني منه كفلسطينيين.

وليد حاضر دائماً في كتاباته وأدبه ورسوماته وحتى في سخريته، وأنا أردت من خلال الرواية القادمة أن أقدّم تمثيلاً أدبياً لتجليات العلاقة التي جمعتني به، وأن أُسلّط الضوء على الأبعاد الإنسانية التي لا يعرفها كثيرون عن وليد.

بعد سنوات الاعتقال الطويلة، ما الرسالة التي توجهها إلى رفاقك الذين ما زالوا خلف القضبان؟

رسالتي إلى رفاقي وإخوتي الذين تركتهم ورائي هي رسالة صمود ومقاومة. الأسرى اليوم يعيشون أصعب الظروف، ونحن كنا في تلك الظروف ولم نتحرر من السجن فقط، إنما أُبعِدنا عن مقبرة الأحياء.

وبالتالي، رسالتي من الصعب جداً أن يستمعوا إليها بسبب العزل الجماعي، لكن رسالة الأسرى إلى العالم هي التدخل لمحاولة إنقاذ هؤلاء الأسرى بسبب ما يعانونه من ويلات داخل السجن.

خاتمة

حوار باسم خندقجي يكشف أن المقاومة في حياة الفلسطيني تتحول من شكلٍ إلى آخر، وكل شكلٍ فيها لا يقل أهمية عن سواه. لكن الأدب والثقافة الفلسطينية، سواء من داخل السجن أو خارجه، يشكّلان البعد الأكثر شمولية لتطوير ما أسماه باسم أدب الاشتباك والمقاومة: ’الأدب ضد الكولونيالي’، في مواجهة الاستعمار والانتصار للرواية الفلسطينية. يتضح بذلك أن الحرية بمعناها الأول هي التجربة وما ينتج عنها من إبداع، مهما بلغت حدود المعاناة والألم، ليصير السجن نفسه مجرد رواية، كلماتها كالرصاص.. تقتل تماماً مثلما يفعل الوعي."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى