

حوار مع الأديب السّوريّ محمّد حسن الحفري

الحفري: "كسوري عشت في جنوب البلاد لا أجد في قلبي سوى المحبة التي تجمعني مع الفلسطيني والأردني واللبناني"
*موجز السّيرة الذّاتيّة للضّيف المبدع:
روائي ومسرحي وقاص صدر له 41 عملاً في مجال الرواية والمسرح والقصة والنقد وأدب الطفل ومنها في الرواية:
"بين دمعتين ـ العلم ـ البوح الأخير ـ جنوب القلب ـ كواكب الجنة المفقودة ـ صندوق الذكريات ـ ذرعان"
وفي مجال القصة : "لحظة دهر ـ حدائق الروح ـ عيون العاشقات"
وفي المسرح: "صاحب الظل الطويل ـ مازال حياً ـ الراقصون الخروج من الزمن ـ تداعيات الحجارة"

وفي أدب الطفل : "الحمار المغرور ـ القرد مفاوض شاطرـ تراجع ـ الثعلب يجر ذيله خائباً"
حاصل على 25 جائزة منها: "جائزة الطيب صالح العالمية ـ جائزة الشارقة للرواية العربية ـ جائزة الدولة التشجيعية "
1ـ "فارصوفيا" قصة تحكي عن الرقيب الإسرائيلي "يوغدان" الّذي لم يستطع أن ينسى منظر الطّفلة الفلسطينيّة الّتي أطلق جنود الاحتلال النّار عليها وأصيب بمرض نفسي، لو قال لك قارئٌ ما:
أنا كعربيّ لا أتقبّل فكرة أنّ عدوّي يشعر بالحزن على طفلة فلسطينيّة، كيف ستردّ عليه؟
طبعاً هذا مِن حق مَن يوجه لي السؤال، ومن حقي القول إن سلوك الأفراد قد يكون مختلفاً عن سلوك الجماعات والجيوش والدول التي يتبعون لها وفي أحيان كثيرة ربما يكون الفرد مجبراً على الانخراط في صفوف جهة ما ، من ناحية أخرى لا نستطيع نفي الإنسانية عن أي شخص مهما كان دينه أو مذهبه وما يحمله من أفكار، وللتوضيح أقول أنني أردت في هذه القصة الخروج عن المألوف والعادي وأردت أن أخذ وجهة النظر الأخرى في هذه القضية المحورية، فأغلب النصوص الصادرة ومنها الفلسطينية على وجه التحديد دائماً تصفه بالتوحش من دون تقديم الأسباب المقنعة لذلك، وهذا قد يكون خارجياً بالمعنى الأدبي والفني أي أنها ابتعدت عن سبر أغوار تلك الشخصية ومعرفة ما فيها من مكنونات.
قد تجمع الأغلبية على مسألة العدوان الإسرائيلي على غزة وغيرها وتدين وترفض ما يحصل فيها وهذا صحيح ومنطقي وواقع بالفعل، ولكن علينا الاعتراف بأن هناك أصوات داخل المجتمع الإسرائيلي ترفض ذلك وتعارضه وتدينه وهي ترفض الحرب بالمطلق وتريد التعايش مع غيرها وأنا لا أبرر هنا وإنما أردت من خلال هذه القصة التعبير عن حال أولئك الذين يشبهون شخصية الرقيب "يوغدان" والتركيز على أعماق الإنسان وهذا قد يعيدنا إلى مسألة الآخر ونحن والإشكالية التي لا تنتهي في تحمل المسؤولية.
ربما أكون قد أطلت لكنني كسوري عشت في جنوب البلاد لا أجد في قلبي سوى المحبة التي تجمعني مع الفلسطيني والأردني واللبناني، وهذه المنطقة تجمعها الكثير من الروابط المتينة ولا تفرقها سوى لعبة الساسة على مدار التاريخ والأزمان.

ـ كيف تتراءى لك الطّفولة في هذه المرحلة من العمر، وماذا أكسبتك قريتُك في محافظة درعا من موروث تلجأ إليه وقت الكتابة؟
الطفولة حاضرة معي، وكثيراً ما أجد نفسي على مدارجها وما من إبداع بلا براءة وهذه الحالة يجب أن تكون حاضرة وموجودة داخل كل كاتب وإلا كيف سيبدع ويشاكس الحياة والمجتمع ويكتب عن هموم الناس وأحلامهم؟
أما بالنسبة للشق الثاني من سؤال حضرتك ، فأقول إن قريتي أعطتني الكثير فهي ذات منظر ساحر حيث تقع بين نهر اليرموك من الجهة الجنوبية ونهر الرقاد من الجهة الشمالية ، ثم تلتقي المياه في الجهة الغربية منها وهي بهذا المعنى شبه جزيرة، ثم إن كل ما فيها يحفز الخيال على التأمل والتفكير: أغاني الفلاحين والأعراس والحداء، ونايات الرعاة وأجراس الماشية الممتزجة مع أصوات المياه والريح تسكن أعماقي ، إضافة إلى أحاديث الناس وتعاضدهم في الأفراح والأتراح والعادات والتقاليد وغيرها الكثير من الأشياء التي شكلت في داخلي مخزوناً هائلاً من المعرفة، وبعد هذه السنوات الطوال من البعد عن قريتي صرت أحسب أنني أحفظ غيباً أماكن الأحجار، وأشجار الصفصاف والطرفاء، وديسات العليق والدروب الترابية وغدران الماء، ورائحة الزعتر البري والنعناع مع رائحة ليموناتنا في وادي اليرموك، لأنها تعشش في روحي وتسكن كل خلية مني وإن نسيت لن أنسى تلك المرأة (أمي) ذات الثوب الأسود المثقوب بفعل سجائرها العربية والتي بقيت حتى أيامها الأخيرة تشد عصبتها على رأسها، وتنشد الأشعار البدوية التي كانت تحفظ الكثير منها على الرغم أنها لم تتعلم ولم تدخل المدرسة.
ـ أيهما أجدر أن يوليه الكتّاب اهتمامهم: الغربة النّاجمة عن السّفر أم الغربة الرّوحيّة في بلدانهم؟
ـ أعتقد أن الثانية هي الأصعب والأكثر مرارة وإيلاماً وبعيداً عن العزلة التي قد يعانيها الفرد في مجتمعه الداخلي، فالفقر في مثل هذه الحال سكيناً يطعن الخاصرة ويدميها في كل وقت وحين ويغدو معه الحصول على رغيف الخبز حلماً يداعب الخيال، ليكون أشد فتكاً وأكثر وجعاً من أي غربة أخرى.
ـ هل كتابة المسرح تفيد كاتب السّيناريو أكثر من كتابة القصّة كون الكتابة للمسرح تشبه الكتابة للسّيناريو من حيث الفصول والمشاهد.
ـ في زمننا تتداخل الأجناس الأدبية مع فن الرسم والتمثيل وغيره من الفنون بشكل كبير، وكتابة المسرح تفيد كاتب السيناريو على وجه التحديد من حيث التقسيم، ونقصد المشهديات وأيضاً من ناحية الحوار، ومن وجهة نظري لا يجب المقارنة بين كتابة المسرح وكتابة السيناريو، لأن الكتابة للمسرح برأيي هي من أصعب أنواع الكتابة والنص المسرحي يجب أن يكون منضبطاً ولا شيء فيه زائد عن الحاجة، أما السيناريو ففيه وفي حالات كثيرة الهذر وما لا يلزم من الكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر.
ـ ألّفت وأخرجت مسرحيّة " ليلة أخيرة" وهي تجربتك الأولى إخراجيًّا، هل المخرج/ الكاتب أكثر إبداعًا في إخراج العمل الأدبيّ بغضّ النظر عن كونه قصّة أو مسرحيّة؟
ـ يبدو أن هناك خطأ أو التباساً في معلومتك لأنني أعمل في مجال المسرح والإخراج المسرحي منذ العام 2000م ومهنتي أو وظيفتي كانت في مجال الإخراج، وقد قدمت للمسرح الكثير من العروض المسرحية، وقدم المسرح القومي وبعض الفرق الأخرى نصوصي على الخشبية، وبالنسبة للمسرحية المذكورة أقول هي تجربتي الأولى في مجال المونودراما أي الممثل الواحد وهي المرة الأولى أو الثانية التي يتبنى فيها اتحاد الكتاب العرب عرضاً مسرحياً، وجواباً عن سؤالك أقول ليس بالضرورة أن يكون المخرج أكثر إبداعاً في إخراج النص الذي يكتبه، وبرأيي يمكن أن يكون أكثر نجاحاً حين يخرج نص غيره والسبب يعود إلى جرأته في تقطيع النص الذي بين يديه، وحذف المشاهد التي يرى أنه لا ضرورة لها وأخذ المناسب منها فقط، وهذا ما يعجز عنه المخرج الكاتب مع نصه.

ـ أرى إعلانات لعروض مسرحيّة، ومعظم نصوصها مستوحاة من الآداب الغربيّة، برأيك ما السّبب في إقبال المخرجين على مثل هذه النّصوص؟
ـ هذا يعود لأسباب عدة، وليس لسبب واحد فقط، ومنها كسل المخرج في البحث عن النص المحلي والعربي، أو من أجل سهولة الحلول الإخراجية فقد يكون ذلك النص جرب وقدم على الخشبة أكثر من مرة، أما السبب الأهم فقد يكون من أجل تقاضي أجرة الكاتب مع الإخراج بحجة أنه قام بإعداد النص وهو يعرف أيضاً أن صاحب هذا النص متوفى منذ زمن وحتى لو كان حياً فلن يحضر من ألمانيا أو روسيا على سبيل المثال من أجل مبالغ زهيدة تقدمها المسارح في بلادنا، وهذه الأسباب كما غيرها قد تكون الغالبة في معظم الأحيان وإلا ما الذي يدفع المخرج للبحث عن نص لا يمت لنا ولا لقضايانا وهمومنا بأي صلة تذكر؟

هذا السؤال كثيراً ما طرحناه للنقاش، والجواب في أغلب الأحيان أن هذا النص إنساني، وكنا دائما نعيد سؤالنا القديم على من يتحجج بذلك بالقول: ألسنا جزءاً من هذه الإنسانية التي تزعمون الدفاع عنها؟
ـ كتبتَ سيناريو فيلم "النّقطة 24" وحلقات تلفزيونيّة متفرّقة، ومسلسل نقطة من أول السّطر، هل من جديد في هذا الشأن؟
ـ في الحقيقة لم أعد أولي هذا الجانب اهتماماً كبيراً على الرغم من الجهد الذي بذلته، ولدي الآن عمل كوميدي عن البيئة المحلية، وعمل جاد عن القضية الفلسطينية، وحلقات منفصلة ولم يتح لي المجال بتسويق سوى بضع حلقات فقط .
ـ فزت بجائزة الطّيّب صالح العالميّة عام 2011م، ما عنوان الرّواية الفائزة ؟ هل توقّعت فوزها؟ وما مضمونها؟
هي تحمل عنوان "البوح الأخيرة" وهي واحدة من أربع روايات أتحدث فيها عن بيئتي المحلية في الجنوب السوري والأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت سائدة، وقد بدأتها برواية " بين دمعتين" الفائزة بجائزة الشارقة للرواية العربية ومن بعدها رواية " العلم " الفائزة بجائزة المزرعة للإبداع الأدبي والفني، ثم جاءت رواية "ذرعان" التي ترجمت للفارسي والكردي والألماني برعاية من صندوق منحة الشارقة للترجمة. أما عن توقع فوزها، فأقول:
نعم. ولا غرور في ذلك لأن قلبي هجس لي بذلك.
ـ هل أسلوب السّرد في الرّواية يختلف عن أسلوب سرد القصص؟
ـ تمتاز القصة بالتكثيف والسعي مباشرة نحو هدفها، بينما تنفتخ الرواية على دروب ومسارات كثيرة، ولهذا شبهت الرواية بالشجرة الكبيرة الوارفة الظلال بينما القصة هي فرع صغير من تلك الشجرة وقد تظلم القصة بهذه المقارنة من ناحية التبعية لأنها فن مستقل بحد ذاته والمناورة فيه أقل اتساعاً.
- هل فكّرتَ في كتابة القصّة القصيرة جدًّا، وما رأيك بانتشارها في الآونة الأخيرة؟
ـ نعم فكرت، ولدي مجموعة قصصية لم تنشر في هذا المجال، وقد صدر لي كتاب بحثي أو تنظيري بعنوان "النص المتشظي وأثر المكان في الـ ق ق ج" كما شاركت في أكثر من ندوة تدور حول ال "ق ق ج" وانتشارها يعود بالدرجة الأولى إلى وجود وسائل التواصل الاجتماعي وهي بالأساس مادة مبسترة، ويمكن أن تقرأ سريعاً وعلى عجل ، لكن علينا الاعتراف والإقرار أن حيفاً أو ظلماً ما قد وقع على هذا النوع الأدبي كما وقع على الشعر من قبله، وبسبب وجود آليات النشر السريع في زمننا ادعى من لا يتقن الكتابة أنه يكتب الشعر أو القصة القصيرة جداً على الرغم من أنها من الأنواع الصعبة، ونحن الآن أمام مشكلة عويصة ولو كتبت واحدة من الحسناوات كلمات فارغة، ولا معنى لها سنجد الكثير من "الأكباش" ونقصد هنا الذكور الذين يطبلون ويزمرون لنتاجها، أقول الأكباش وأقصد ذلك حرفياً لأنهم لا يفقهون الأدب من جهة وغاياتهم بعيدة عنه من جهة أخرى.
- تكتب للأطفال في مجال المسرح والقصّة والرواية، هل من جديد في مجال الأناشيد؟ وماهو الجنس الأدبي الذي تراه الأنسب للوصول إلى قلب الطفل؟
ـ أنا لا أكتب الأناشيد كعمل مستقل، ولكنني قد أفعل ذلك داخل النص المسرحي وذلك من أجل غاية أو هدف معين ومن أجل خدمة العمل والأنشودة أو القصيدة المغناة في هذه الحال قد تدفع الطفل للتفاعل والانسجام مع ما يقدم وخاصة على خشبة المسرح، وأرى أن القصة هي الأقرب إلى الأطفال لأنها تحوي الحكاية ونحن كباراً وصغاراً نعشق الحكاية وكي لا نبالغ كثيراً في زمن قلت فيه القراءة إلى درجة النضوب أقول إن الفيلم المصور قد يكون الأجدى في الوصول، فهذا الزمن هو زمن الصورة.
ـ كيف ترى واقع الأمسيات، والنّدوات، والمسابقات الثّقافيّة، والحركة النّقديّة عندنا؟
ـ دعيني أقرّ لكِ بالذكاء والفطنة، فداخل كل سؤال من أسئلتك الكثير من الأسئلة، ومع ذلك أستجيب تلبيةً لهذا الذكاء، وفي الحقيقة أرى تلك الأمسيات والندوات في الكثير من الأحيان مجرد جعجعة ولا طحين فيها سوى استعراض العضلات، وهي لم تُصدّر سوى فرسان من خشب وحوريات يردن الخروج من أنهار جفت مياهها، وكلامي لا يعني بالمطلق نفي فائدتها، فهي على الأقل تنمي عرى الصداقة والمعرفة بين الناس. كلامي هذا قد ينطبق على الكثير من المسابقات التي تمنح ورقة الكترونية أو شهادة لا نعرف من هي الجهة التي منحتها، وما هو مستواها ونستثني من ذلك بعض الجوائز المحترمة، والمعترف بها على الأصعدة المحلية، والعربية، والعالمية وهي تمنح مبالغ مالية تنقذ الكاتب من براثن الفقر كما أنها تضاف إلى رصيده الإبداعي، وتشجعه على الاستمرار في مجال الكتابة، أما ما يتعلق بالحركة النقدية وأعتقد أنك تخصين سوريا بكلمة "عندنا"، فأقول لك أن هذه الحركة ضعيفة إلى حد كبير بسبب ندرة الناقد الحقيقي الذي يمتلك أدواته الخاصة بعيداً عن النظريات المؤطرة، والقوالب الجاهزة التي يريد أن يلبسها للنص، والكثير مما يقدم هو مجرد قراءات انطباعية وحسب.