تلازم الحرية والاختلاف والتعددية لا تتعارض مع مفهوم الأمّة
أينما دار الإنسان ببصره في هذا الكون، وجد التعدد والاختلاف والتنوع في كل شيء ما خلا خالق الكون المتوحد في وحدانيته، الصمد في تفرده، فهو الواحد الأحد المتعالي الذي ليس له شريك، لم يلد ولم يولد، ولو كان له شريك في الملك، لفسدت السماوات والأرض، فكما أن لكل صاحب مصنع أو معمل الحق الكامل في التصرف فيما تحت حيازته، فان لصاحب المصنع والمعمل الثاني كامل الحق في التصرف بما يملك، ولو اتحدت الملكية لوجدنا الاختلاف والتشرذم إذ يرى كل واحد منهم الحق في التصرف بما تهوى نفسه فيصبح المعمل عرضة للخراب، من هنا قرر تعالى انه: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (سورة الأنبياء: 22)، فالله سبحانه هو الأحد الذي ليس له ثان.
فالوحدة البسيطة هي لله الواحد الأحد بإطلاق، وكل ما عدا الله هو متعدد، وابتغاء توحيده لن يكون إلا في إطار القبول بالتعدد، أما محاولة صب الناس جميعا في قالب واحد، فهذه وحدة مصطنعة تجافي فطرة الإنسان التي فطر الله عليها وهي فطرة الاختلاف والتعدد، وإذا كانت الرؤية الإسلامية قد قصرت "الوحدة" التي لا تركّب فيها ولا تعدد لها على الذات الإلهية وحدها، دون كل المخلوقات والمحدثات والموجودات، في كل ميادين الخلق المادية والحيوانية والإنسانية وتلك التي قامت جميعها على التعدد والتزاوج والتركب والإرتقاق.. فإن هدى الرؤى الإسلامية تكون، بهذا الموقف الثابت- ثبات الاعتقاد الديني- بل جوهر هذا الاعتقاد، قد جعلت من التعددية، في كل الظواهر المخلوقة, "سنّة" من سنن الله, سبحانه وتعالى، في الخلق والمخلوقات جميعا، و"آية" من الآيات التي لا تبديل لها ولا تحويل. إنها "القانون" الإلهي و "السنّة" الإلهية - الأزلية الأبدية- في ميادين الكون المادي والاجتماعي الإنساني، وشؤون العمران وميادينه.. وبها تتميز وتختص "الوحدانية" في ذات "الحق".. كما تتميز وتختص "التعددية" بكل ظواهر "الخلق". [1].
فالذي لا يمكن أن نتصور له شريكا في الإلوهية، لا يمكن أن نتصور له مشابها أو معادلا، لانعدام التشابه والشراكة في الأساس، وحتى في الإنسان المخلوق الذي برأ الله نسمته فانه رغم تعدد الكائن البشري وعلى مر الأجيال، فإننا من الصعب أن نجد إنسانين متطابقين مئة في المائة، بل يستحيل ذلك وحتى وان تقارب الشبه بين اثنين، وحتى في التوأم، فانه إن تشابهت ملامح الوجه، فتبقى هناك أوصاف جسدية ونفسية يستحيل تطابقها، ولهذا عُدّت آية البنان: أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه. بلى قادرين على أن نسوّي بنانه (سورة القيامة:3 و4) واحدة من معجزات القرآن الكريم، لأنه يستحيل أن تتطابق خارطة بنان إنسانين على وجه البسيطة منذ خلق آدم (ع) وحتى يوم القيامة، فرغم التشابه الذي يوحي بالتوحد والذوبان بين التوأمين، فان لكل منهما مورثه الجيني الذي يختلف عن الآخر، ولو كان التوأمان يحملان المورثات الجينية نفسها ومتطابقة كليا لما اختلفت على سبيل المثال خارطة البنان، فهي على علاقة مباشرة بالمورثة الجينية التي تعطي لكل إنسان صفته الخاصة به.
العلم يقر بالتعدد
وحتى في مجال الاستنساخ أو عملية الاستنسال الذي راجت في نهاية القرن العشرين بعد استنساخ النعجة دوللي العام 1996م, فانه يستحيل إنتاج إنسان يحمل جميع صفات الإنسان التي أخذت منه الخلية [2]، وهذه المرة تأتي الاختلافات من اعتبارات أخرى، يقول الأكاديمي العراقي الأستاذ في جامعة بيرمنجهام البريطانية الدكتور محمد الربيعي: "انه من المستحيل استنساخ (أو الأصح استنسال) المتوفين من قبل مئات السنين لأنه لا يمكن استعادة كل مادتهم الوراثية من دون عطب حتى وان تم إيجاد أجسامهم، ولا يمكن استنسال الأحياء بعقولهم وعبقريتهم، لان النسل الناتج سيكون شبيها جسميا فقط للأصل حيث لا يمكن إعادة مؤثرات بيئة الرحم أو البيئة العائلية والاجتماعية أو البيت أو المدرسة أو الأب أو الأم الأصل. كيف يمكن لنسلة المتوفى أن تمر بنفس تجربته الحياتية وأن تعيش نفس حياته في مرحلة زمنية مختلفة وتحت مؤثرات لا حصر لها. التنسيل بافتراض حدوثه لن يلغي التفرد والخصوصية والتميز عند الإنسان لان النسل ستكون لها شخصياتها المستقلة كالتوائم فهي لا تختلف عنها من الناحية الوراثية والبيولوجية، والفرق الوحيد هو أن النسلة فرد يشابه أخاه الذي أخذت منه الخلايا لتزرع وتنقل إلى رحم امرأة". [3]
فالتشابه أمر يستحيل حصوله في هذا الكون بين مختلف المخلوقات. من هنا، اعتمد رسم البنان منذ أن اكتشف الإنسان ذلك في التمييز بين الأفراد، وبخاصة في مجال عمل السجلات والوثائق والشرطة وغير ذلك. فكما خلق جل وعلا الملائكة أصنافا متفاضلين، كذلك خلق الإنسان، إنها سنة الله العامة الجارية في كافة مخلوقات الله، فهو لم يخلق خلقين متشابهين تمام التشابه، بل أبدع ونوّع حتى في (البنان) فكيف بالروح والجنان.. وذلك من اكبر الأدلة على قدرته المطلقة وخلاقيته الشاملة. بل إن العلم الحديث اخذ يعتمد على خارطة إذن الإنسان في التعرف على الإنسان المطلوب والتمييز بين إنسان وآخر. [4]
توضح الاكتشافات العلمية في بدن الإنسان وبجلاء، استحالة تطابق إنسانين في كل الصفات الجسدية والنفسية والعقلية، وإذا كان هناك من تطابق، فهو ما يطلق عليه بالشبه، بل ويذهب الباحث العراقي الشيخ القرشي إلى أن المساواة التي أعلن عنها الإسلام، إنما هي من باب التجوز: "إذ يستحيل نشدان المساواة مائة في المائة، إذ ليس المقصود من المساواة التي أعلنها الإسلام هي المساواة الطبيعية بين الناس وهي تساويهم في اللون والشكل فإنها غير ملحوظة في نظر الإسلام ولا يعقل إرادتها ووجودها، فان الناس قد خلقوا غير متساوين في اللون والشكل والتكوين، والعقل والذكاء والأخلاق والميول والطبائع، ويستحيل التساوي بينهم من هذه الجهة". [5] فقد خلق الله تبارك وتعالى نفوس الناس على أنماط مختلفة، كما خلق الناس على أشكال مختلفة. [6]
وهذه حقيقة لا يكابر أحد في وجودها، فعلى سبيل المثال، أقرّ الإسلام في التشريعات المساواة بين أبناء البشر من حيث الحكم، أما من حيث الموضوع وتوفر مفرداته وصولا إلى تطبيق حيثيات الحكم فهي خارجة عن نطاق المساواة وخاضعة لاعتبارات عدة تمليها قدرة الإنسان على توفير مستلزمات الموضوع، فعلى سبيل المثال فان الحج يتساوى في حكم وجوبه بين الذكر والأنثى، الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، العربي والأعجمي, وبين الحجازي والقوقازي، ولكن ربما توفرت ظروف الحج للقوقازي ولم تتوفر لدى الحجازي مع قرب المسافة للحجازي عن المشاعر المقدسة وبعدها للقوقازي، فالمساواة قائمة بين الاثنين من حيث الحكم وهو الوجوب، ولكن المساواة غير قائمة من حيث موضوع الحكم وهي الاستطاعة كما يفهم بوضوح من مدلول آية الحج ولله على الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلا (سورة آل عمران:97).
صنفا التنوع وخصائصه
ويقرر بعض علماء الدين أن التنوع في الإنسان على نوعين، تنوع جعلي تكويني ليس للإنسان دخل فيه وتنوع كسبي اختياري، خاضع لإرادة الإنسان، فالصنف الأول تنوع طبيعي تكويني، وجد الناس أنفسهم ضمنه، من دون اختيار منهم، حيث لا يستشار أحد، ولا يخبّر قبل مجيئه إلى هذه الدنيا في انتمائه العرقي أو القومي، ولا في ملامح شكله ومظهره... وهذا التنوع الطبيعي تم بأمر الله ومشيئته، لذلك يُعبّر عنه تعالى بالجعل: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل.. (سورة الحجرات: 13) فالله تعالى هو الذي جعلنا متنوعين في أعراقنا وقومياتنا وشعوبنا.
الثاني: تنوع اختياري كسبي، يرتبط بقناعات الإنسان وأفكاره، ونمط سلوكه واتجاهه، فكل إنسان هو الذي يقرر ما يعتنق من دين، وما يؤمن به من فكر، وما يرتضيه لنفسه من ثقافة وسلوك، وتبعا لذلك تتعدد الأديان بين الناس وتختلف المدارس الفكرية وتتنوع التوجهات السياسية. [7] ويرى كاتب آخر أن لكل إنسان صنفين من الخصائص، ولهذه الخصائص علاقة كبيرة في إعطاء كل إنسان شخصيته وذاته واستقلاله، وهي عبارة عن:
1- الخصائص الذاتية أو الأولية: وهي التي تدخل في ذات الشيء وطبيعته وحدوده، فتوجد مع الشيء وتنعدم بانعدامه فتستعمل فيها كلمة الخَلْق.
2- الخصائص العرضية أو الثانوية: وهي التي لا ترتبط بذات الشيء وطبيعته فلا يكون انعدامها سببا لانعدام الشيء، وهذه تكون:
أ- إما خصائص فطرية كحب الخير ومجانبة الشر والميل إلى الانقياد إلى الله والدين.
ب- إما خصائص عارضة حيث تطرأ على الشيء بعد تحققه ووجوده كالميل إلى بعض العلوم والفنون الجميلة فإنها اكتسابية تحصل من المراجعة والفهم ومناسبتها مع طموحات الإنسان. [8].
حتمية الاختلاف والتنوع
ما من شك أن الاختلاف والتعدد والتنوع: "ظاهرة طبيعية وظاهرة إنسانية وجدت منذ بداية وجود الإنسان وسوف تستمر هذه الظاهرة إلى نهاية هذا الوجود، ظاهرة إنسانية أريد منها ابتلاء هذا الإنسان واختباره في حركته التكاملية". [9] يقول السيد اسحق فرحان أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي الأردني السابق: "نحن نؤمن بان الله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين ومتفاوتين وجعلهم شعوبا وقبائل، يتكلمون لغات مختلفة رجالا ونساء، ولم يقصد بهذه الاختلافات التناحر والتقاتل بل التعارف والتعاون، ومن هنا فنحن نرى في التعددية في الأديان والأيديولوجيات والمذاهب الفلسفية أمرا يتناسب وطبيعة الخلق". [10]
ويعاضده في الرؤية الكاتب سليم الهلالي في كتابه (مؤلفات سعيد حوى) مؤكدا: "إن الفرقة أمر قدري واقع لا محالة لقوله تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (سورة هود: 119)، وقوله (ص): سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة - أي القحط – فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها، وقوله عليه السلام: وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين". [11] فالإقرار بشرعية الاختلاف أمر لا بد منه. وعلى الإنسان أن يقر بشرعية الاختلاف بين الأفراد: "كاختلاف العقل والفطرة وغيرهما، باعتبار طبيعة الإنسان في الحياة وسنة شرعية أكدها القران الكريم". [12]
وبضميمة الآية 119 من سورة هود إلى الآية 99 من سورة يونس: ولو شاء ربك لآمن مَن في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وإلحاق معهما الآية 31 من سورة الرعد: أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا بإضافة الآية 24 من سورة سبأ: وإنّا وإيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وغيرها، لظهرت لنا الصورة جلية على حتمية التعددية، وإلا فحسب منطوق الآيات الشريفة كان بإمكان الباري تعالى وبمشيئته أن يهدي الناس جميعا، ولكن الهداية القسرية تتعارض مع قيم الحرية والاختيار، ومبدأ الثواب والعقاب.
والتعدد ليس سمة عالم الدنيا فحسب: "بل هو سمة عالم الآخرة أيضا، فالفائزون بالجنان هم أيضا يعيشون حياة متنوعة، وليست رتيبة" [13]. وإلى هذا أشار القران في أكثر من موضع، فقد وضع الناس يوم القيامة في ثلاثة منازل، طبقة في النار وطبقتان في الجنة، وبين الطبقتين تفاضل، قال تعالى:وكنتم أزواجا ثلاثة. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة. والسابقون السابقون. أولئك المقربون (سورة الواقعة: 7 إلى 11) أو قوله تعالى: فأما إن كان من المقربين. فروح وريحان وجنت نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين. فسلام لك من أصحاب اليمين. وأما إن كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم (سورة الواقعة:88 إلى 93). ويذهب بعض المفسرين، أن هذه الآيات حاكية عن مراتب الناس عند الموت، والآيات من 7 إلى 11 من السورة نفسها حاكية عن مراتبهم ومنازلهم يوم القيامة، وأما مراتبهم في الدنيا فتتحدث عنها آية 32 من سورة فاطر: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير، فالظالم: إشارة إلى أصحاب الشمال، والمقتصد: إلى أصحاب اليمين، والسابق بالخيرات علامة على: "السابقون السابقون".
ونقرأ هذه المراتب بوضوح في سور عدة من القران مثل سورة الإنسان والمطففين [14] فالتعدد والاختلاف في كل جزئية من مكونات الحياة أمر قدري وحتمي ليس للإنسان حيلة فيما هو فيه وما يحيط به، فالتعدد سنة ليس له أن يبدلها أو أن يغير من خارطتها، وإنما يتحرك ضمن حدودها، قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ولن تجد لسنة الله تبديلا (سورة الأحزاب: 62) ولن تجد لسنة الله تحويلا (سورة فاطر: 43).
لا تعارض بين التعددية ومفهوم الأمّة
وفي خضم الحديث عن شرعية التعدد والتنوع، يتبادر للذهن إمكانية قيام التعارض بين التعددية بأشكالها المختلفة مع دعوة الإسلام إلى الأمة الواحدة. إن مثل هذا التعارض يمكن توقعه لو أفضى إلى التنازع والتشرذم لحرمة التنازع بلحاظ العقل والعرف وبنص القرآن الكريم: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.. (سورة الأنفال: 46)، لكن التعدد يبقى في إطار التنوع والتخصص، المؤدي إلى التكامل، وهو لا يتعارض أساسا مع نشدان الوحدة والأمة الواحدة، ويرى العوا، أن: "قوله تعالى إن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدون سورة الأنبياء:92، والمراد في هذه الآية، وفي جميع الآيات الأخرى الجارية مجراها، وحدة الدين المتمثل في إخلاص العبودية لله وحده وعدم إشراك أحد معه من دونه". [15]
بل ويمكن الذهاب إلى قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة (سورة البقرة: 213) وما بعدها إشارة إلى واقع التنوع والتعدد الذي حصل بعد المرحلة الأولى من وجود البشرية على وجه البسيطة، ويؤكد البروفيسور عبد العزيز ساجدينا أستاذ الدراسات الدينية في جامعة فرجينيا الأميركية أن مفهوم الأمة الواحدة رغم الاختلاف في الأديان والعقائد والمذاهب لازال قائما بلحاظ استمرار جميع أصحاب العقائد السماوية الإيمان: "والمشاركة بمبدأ الإنسانية"
[16]، أي أن الإنسانية توحد بني البشر جميعهم في إطار الأمة الواحدة.
ولا يرى الشيخ شمس الدين (1936-2001م) تعارضا بين مفهومي التعددية والوحدة وذلك انطلاقا من قاعدة (التعاون على البر والتقوى) التي أقرها الإسلام في قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (سورة المائدة: 2)، فهو في معرض التساؤل لاستنطاق الجواب يقول: "إن الوحدة – وحدة الأمة- وهي ضرورة فكرية – عقيدية وفقهية إسلامية- هل هي وحدة اندماجية كاملة تنحلّ فيها جميع التنوعات الداخلية في المجتمع الإسلامي لحساب التكوين المجتمعي الواحد؟ أو أنها وحدة لا تلغي التنوعات الداخلية/ قبائل – شعوب/ قوميات مدينية متحضرة.
ربما كانت الصيغة الثانية هي الظاهرة من النصوص وعلى رأسها الآية المشار إليها (سورة الحجرات/ مدنية: 49 الآية: 13) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر أو أنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير، والواقع التاريخي للإسلام كما صنعه الخلفاء الأربعة الأولون. ولكن شرط ألاّ تكون التنوعات عبارة عن مجتمعات سياسية داخل المجتمع السياسي الواحد الذي تتشكل فيه الأمة، ولا تكون صيغة المجتمع الإسلامي السياسي صيغة تعددية على المستوى السياسي والتنظيمي الداخلي، وإنما يكون كل تنوع إطارا للعلاقات (الإنسانية) بين أعضائه كما يقضي بعد (التعارف) المفضي إلى (التعاون)". [17].
وأميل إلى ما ذهب إليه الشيخ الحسيني (ت 2003) من أن: "التعددية ليست هي اتجاهات مبدئية يختلف بعضها عن البعض وكأن لكل منهم عقائدهم ونظمهم وتقاليدهم وطقوسهم الخاصة المميزة. إن هذا الفهم مرفوض في الشريعة الإسلامية حيث الكل ذو أصول مشتركة وهدف واحد، إنما هي اجتهادات في الأسلوب واختيار الأنجح في العمل والأقرب لتحقيق الهدف. وبالتالي فهي أعمدة لبناء وحدة يرتكز عليها المجتمع في نهضته ومسيرته في الظروف العادية أو المضطربة". [18]
واشتهر على ألسنة المفكرين المسلمين مقولة (التعددية في إطار الوحدة) و (التنوع في إطار الأمة الواحدة) وهي مقولة مبنية على قاعدة التوالف بين فطرية التنوع والتعدد والوجوب الشرعي للوحدة والتوحد، من حيث أن وجوب الوحدة والتوحد في إطار الأمة الواحدة لا يلغي فطرية التعدد والتنوع شريطة أن يكون مبتنى (التعددية في إطار الوحدة) هو التعاون على البر والتقوى في إطار مرجعية الإسلام، وكما يقول الدكتور عمارة: "فان التعددية الموزونة بميزانها، لابد وأن تكون تميزا لفرقاء يجمعهم جامع الإسلام، وتنوعا لمذاهب وتيارات تظلها مرجعية التصور الإسلامي الجامع، وخصوصيات متعددة في إطار ثوابت الوحدة الإسلامية، الأمر الذي يجعل هذه التعددية: نموا وتنمية للخصوصيات، مع احتفاظ كل فرقائها، وأطراف الخصوصيات، وأفراد التنوع بالروح الإسلامية، والمزاج الإسلامي، تواصل الفروع مع أصل الشجرة لكلمة الإسلام، التي هي بلاغ الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان هذا الرسول إلى العالمين.
بهذا المنظار والمنهاج يكون النظر الإسلامي إلى قضية التعددية.. فيراها قانون التنوع الإسلامي في إطار الوحدة الإسلامية". [19].
وبتقديري أن الإيمان بالتعددية والتنوع لا يتنافى مع طاعة الإمام أو التمحور حول المرجعية الدينية والسياسية الواحدة، لان المرجعية الواحدة هي معقد كل التنوعات وينبغي أن يكون الأمر كذلك وإلا انتفت الحاجة إلى الإمام أو المرجعية التي تقود مختلف أصناف وطبقات الناس إلى الصراط السوي، فمن أولى مهمات الإمام أو المرجعية السياسية أو الدينية هي جمع المختلف وشد المؤتلف على قاعدتي (التعارف) و(التعاون)، لاستحالة صهر كل الناس بمختلف أطيافهم في بوتقة واحدة.