

القيم الخلقية في شعر الزهد في الأندلس
تعد الدعوة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة والتمسك بالخصال الحميدة مبدأ جوهرياً من مبادئ الإسلام وتعاليمه، فقد أحاط الإسلام المجتمع بمنظومة من القيم الخلقية، ووضع للأخلاق قواعد يتم على أساسها تربية النفس وتهذيبها منها: القناعة والتوكل على الله والصبر والتقوى التزام الصدق والوفاء والحياء والسخاء، كما أنه ذم النقائص الخلقية التي ينزلق إليها ذوو النفوس الضعيفة مثل: الحسد والتكالب على موارد الرزق والإقبال على الدنيا والكبر والحقد والجبن والكذب وسوء الظن بالنفس وبالغير.
والزهد قيمة إسلامية خالصة يستمد أصوله من مفاهيم الإسلام ومبادئه، وهو فى معناه اللغوي يدور حول معان عدة منها: أنه ضد الرغبة، والزهيد هو: القليل الحقير، والازدهاد: القليل، يقال:ازدهد العطاء استقله، أما الزهد في معناه الشامل، فيعني: الاتجاه إلى الله، وعدم الاشتغال بالدنيا، والانقطاع عن الشهوات، ونهي النفس عن الهوى، والقناعة والغنى، والاكتفاء بالحاجة والعودة الى منابع الدين الحنيف والتحلي بأخلاقه"
المتأمل فى المعنيين: اللغوي والاصطلاحي للزهد، يتبين له أن نصيباً كبيراً من الزهد يتعلق بالأخلاق الإسلامية، وأن هناك علاقة وطيدة بينهما، فالزهد يعد أحد العوامل التي تقوي إرادة الإنسان، وتمنحه الثقة بالنفس، والأمل بالمستقبل، وقد اعتمد عليه الإسلام في سعيه إلى تهذيب السلوك الإنساني، وتربية النفس الإنسانية على القيم الإنسانية العليا والمثل السامية.
والزهد من الأغراض الشعرية التي راجت في الشعر الاندلسي وازدهرت ازدهاراً ملحوظاً، حتى غدا تياراً واسعاً وعميقاً، فقد كثر من قال فيه كثرة لافتة، تكاد تفوق مَنْ قال فيه من شعراء المشارقة، فمنهم من قصر شعره على مذهب الزهد، ولم يتجاوزه إلى غرض آخر، ومنهم من تناوله ضمن أغراض أخرى، وكان ذلك ثمرة لتضافر مجموعة من الأسباب والبواعث المحفزة التي عملت على تقوية هذا الغرض الشعري، وترسيخه في نفوس الأندلسيين، لاسيما الباعث الديني من ورع وتقوى الذي كان عاملاً أصيلاً في تقوية نزعة الزهد في نفوس الأندلسيين، فضلاً عن عوامل أخرى سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية.
وتمثل الدعوة إلى التحلي بالأخلاق النبيلة، والآداب الإسلامية السامية اتجاهاً بارزاً من اتجاهات شعر الزهد في الأندلس، فلقد أذاع شعراء الزهد دعوة واسعة إلى القيم الخلقية، وانتصروا لها، وفاضت قرائحهم بقصائد شعرية عديدة فيها، وشكلت تلك الدعوة منطلقاً أخلاقياً بارزاً في أشعار كثير من زهاد الأندلس، فللأخلاق فى حياة الزهاد شأن عظيم، لارتباطها الوثيق بمفهوم الزهد ونزعته العامة، إذ إن كثيراً من شعراء الزهد هم شعراء أخلاق وآداب إسلامية.
وما دامت الحياة فانية، وكل شيء فيها إلى زوال، فلتكن الأخلاق هي الزاد الذي يتزود به الزاهد في رحلة الحياة الدنيا، والجسر الذي يعبر عليه إلى عالم الآخرة، فقد وجد الزهاد في الأخلاق العزاء لما فقدوه في مجتمعهم من مُثل وقيم، وألفوا في التحلي بها المفر من وجه الحياة المتجهم.
ومما لاشك فيه أن الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، والآداب الإسلامية تمثل جوهر رسالة الزاهد التي تنبع من حرصه الشديد على إحياء العنصر الخلقي الرفيع الذي دعت إليه التعاليم الإسلامية، إلى جانب رسالته السامية في الكشف عن النقائص الخلقية والآفات الاجتماعية السيئة المنحرفة عن المفهوم الإسلامي التي أفضت إلى اضطراب المجتمع الأندلسي وفساده.
فالزهد عند الزاهد أبي عمران المارتلي ليس مظهراً خارجياً يتبدى في ارتداء الثياب البالية، وإنما هو التقوى والورع، والأدب الحسن والخلق الرفيع:
ما الزهد يا قوم – فلا تجهلوا –بلبــس أسمالٍ وأخلاقِلكنه لبس ثيـــاب التـــــــــقىفي حسن آدابٍ وأخلاقِ
أما الزاهد سالم بن صالح، فقد تمثل القيم الخلقية الفاضلة في شعره من تقوى وطهارة قلب وفعال حسنة، إذ يقول:
حسن فعالك واجنح للتقى أبــــداًوسل من الله حسن الخلْق والخلُقِوطهر القلب من شك ومن دنسفآفة الثـــوب أن يطوى على خَلَقِِ
ومن القيم الخلقية البارزة التي جسدها شعراء الزهد في أشعارهم قيمة القناعة والتعفف؛ لاتصالها الوطيد بنزعة الزهد من حيث نبذ الحرص على الدنيا، والميل إلى العفاف، والرضا بما قسم الله من الرزق.
وقد استوحى شعراء الزهد كثيراً من مضامينهم في القناعة من مصادر الشريعة الإسلامية: القرآن الكريم والحديث شريف، والأقوال المأثورة لبعض الوعاظ الزهاد والقصاص، وربطوا ذلك كله بتجاربهم الذاتية، ونظرتهم الخاصة إلى الحياة، فضلاً عن أن مفهوم القناعة لديهم كان انعكاساً لأحداث المجتمع وتقلباته الاجتماعية والسياسية.
فالقناعة عند الزاهد المارتلي تعني بساطة العيش، والرضا بالكفاف من العيش، وهي تصدر عنه اختياراً وطوعاً، وترتبط بحساب الآخرة، فخفيف الأموال في الدنيا، ثقيل الأجر والثواب والميزان في الآخرة؛ لذا فهو يكفيه بيت متواضع يأوي إليه، ورغيف خبز مع جرعة ماء، وثوب يكتسي به، وإذا كان الله قد أعطاه حاجاته الأساسية، فهو يشعر بأنه أكثر سعادة من الأمراء ذوي القصور المنيفة، وقد صور ذلك في أسلوب شعري يفيض بصدق التعبير، في بساطة وعفوية، وقد صبه في لغة هي أقرب ما تكون إلى لغة عامة الناس، يقول المارتلي:
سليخة وحصيــرلبيت مثلي كثيروفيــه شكر لربيخبز وماء نميـروفوق جسمي ثوبمن الهواء ستيـرإن قلت: إني مقلإنــي إذاً كفــــورقررت عيناً بعيشفدون حالي الأمير
إن نظرة الشاعر إلى الحياة مستوحاة من إيمانه الذاتي بفكرة القناعة التي اتخذها فلسفة خاصة في حياته الزاهدة، ومذهباً في الحياة يقيم عليه، وقد طبق هذا المنهج الخلقي على نفسه تطبيقاً عملياً، فحقق لها طمأنينة نفسية قوية، فقد روي عنه أن كان متقللاً من الدنيا، قانعاً باليسير منها، حريصاً على أن يكون مطعمه من حلال، متعففاً، لا يقبل من أحد شيئاً، يكسب قوت يومه بكد يمينه،" إذ كان يعمل الخوص بيده في خلوته، ويبيع ما يعمل به، ويتصدق منه، لأنه كان يرى كراهية البطالة عن شغلٍ لمثله".
ويتناول الزاهد محمد بن مفضل الفكرة ذاتها، ويعلل سر دعوته إلى القناعة والانقباض عن الناس بقوله:
أملي في الدنيا المباحة كسرةأبقي بها على رمقي ودار نابيهْقد أضرب الزمان عن سكانهافكأنها في القفـر دار خاليـــــــهْ
أما الزاهد أبو اسحق الإلبيري، فالقناعة عنده لا تصدر عن فقر وعوز وحاجة، وإنما عن إيمان ببساطة العيش في ظل الثراء والغنى والسعة، فحين يعاتبه صديق له بقوله:" لو سكنت داراً خيراً من هذه، لكانت أولى لك"، فأجابه قائلاً:
قالوا: أتستجد بيــتاًتعجب من حسنه البيوتفقلت:ما ذلكم صوابحفش كثير لمن يموتلولا شتـاء ولفح قيظوخوف لص وحفظ قوتونسوة يبتغيـن ستراًبنيــت بنيـان عنكبــــــوت
أما الزاهد أبو وهب العباسي، فقد أكثر في شعره من الدعوة إلى القناعة والتواضع في المسكن والملبس مازجاً إياها بالثقة بالله يقول في مقطعة زهدية مشهورة له:
أنا في حالتــي التي قد تـرانيأحسن الناس إن تفكرت حالامنزلي حيث شئت من مستقر الـأرض أسقى من الميـاه زلالاليس لي كســــوة أخاف عليهامن مغيـر ولا ترى لي مالاأجعل الساعد اليميــــن وساديتم انثني إذا انقلبـت الشمالا
وترتبط الدعوة إلى القناعة عند بعض الزهاد بداعي تقييم النفس وعدم إهانتها بالتذلل أمام أبواب أهل اليسار من الأغنياء، وذلك بالتوجه إلى الله ـ عز وجل ـ في طلب الرزق، يقول الزاهد محمد بن حبيب:
لا تسأل الناس حب خردلةوسل إلهاً براك من طينفرزقه للعبـــــــــاد ذو سعةليـس بفان ولا بممنون
أما الشاعر السميسر، فإنه في إطار فلسفته الزهدية يدعو إلى القناعة وعيش الكفاف والكسب الحلال والعفاف، ويذم الحرص على الجاه والمال، وقد صاغ معانيه في أسلوب نثري يغلب عليه الطابع التعليمي التهذيبي:
دع عنك جاهاً ومالاًلا عيش إلا الكفافقوتٌ حلالٌ وأمنٌمن الردى وعفافوكل ما هـو فضلٌفإنـــه إســـــــراف
ويرى الزاهد ابن محرز البلنسي أن العبد القانع الصابر هو أغنى الناس؛ لأنه متيقن من أن الأرزاق مقسومة، ولا حيلة في تغيير ما خطته الأقدار:
اقنع بما أوتيــته تنل الغنىوإذا دهتك ملمة فتصبرواعلم بأن الرزق مقسوم فلورمنا زيادَة ذرةٍ لم نقدر
والحقيقة أن دعوة الزهاد إلى التزام القناعة وإلحاحهم على الحث على حياة التقشف والحرمان، قد نالهم من ورائها نقد كثير، إذ رأى فيها خصومهم ميلاً لحياة الخمول، وقعوداً عن طلب الرزق، وانصرافاً عن التطلع لحياة أفضل.
بيد أن المتتبع حياة أولئك الزهاد ومسلكهم العملي في الحياة، يلمس أن القناعة في مفهومهم ليست سوى غني النفس، ورضاها بما قسم الله لها من الرزق، وأن دعوتهم إلى القناعة لا تعدو كونها دعوة إلى التجمل في طلب الرزق، وعدم الإلحاح عليه. وهو مبدأ يتساوق مع روح الإسلام وتعاليمه، فقد ورد عن الرسول الكريم قوله:" أيها الناس اتقوا الله، وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها" وقوله: صلى الله عليه وسلم:"اقنع بما رزقت، تكن أغنى الناس".
وبرغم إيمان الزاهد بأن الأرزاق مكفولة من عند الله، فإن الزاهد يدعو إلى الأخذ بالأسباب لبلوغ الرزق، يقول الزاهد أمية بن أبي الصلت:
لا تقعدن بكسر البيت مكتئبــاًيفنى زمانك بين اليأس والأملواحتل لنفسك في شيء تعيش بهفإن أكثر عيـش الناس بالحيـلولا تقل إن رزقي سوف يدركنيوإن قعدت فليس الرزق كالأجل
ويدعو الزاهد إلى التحلي بالفضائل الإسلامية، والتمسك بالمثل العليا، ويحض على القناعة والرضا بالقليل، وينفر من الطمع والجشع، ويحث على احتقار المال وعُبّاده الحريصين على جمعه وضمه بدلاً من إنفاقه فى وجوه البر والإحسان يقول الزاهد المارتلي ذاماً الدرهم وحرص الناس على جمعه:
إن المؤنة والحساب كليهماقرنا بهذا الدرهم المذمومكلف الأنام بذمه وبضمهفتعجبوا من لمذمم مضموم
أما الزاهد ابن قسوم، فالقناعة عنده ترتبط بفكرة الإيمان بأن الرزق ما دام مقدراً ومكفولاً من الخالق، فينبغي على الإنسان أن يسعى للحصول عليه بالكسب الحلال، ويتجنب الطمع والحرص الشديد على الدنيا؛ لأنه إن لم يسع إلى الرزق، لسعى الرزق إليه، يقول
عليك بالقصدِ في ما أنت كاسِبُهفأفضلُ الناس عَبْد طابَ مَكْسَبُهْلا يَسْتَفٌزكَ حرصُ لا ولا طَمَعُفالرزقُ يَطْلُبُنَا لا نَحْنُ نَطْلُبُـــهْ
ويرادف الدعوة إلى خلق القناعة لدى شعراء الزهد الحضُّ على خلق التقوى، والتزود لها بالعمل الصالح، فهي أهم عناصر الخلق الكريم، يقول الشاعر محمد بن إسماعيل:
واعْمَل لأخراكَ فـي دُنْياك مُجْتَهداًقَبْلَ الرٌحيل ولازِمْ أُهْبَـة العجلِوخيُر زادِك تقوى اللهِ في ظَعَــنٍفَلْتدَخِـــرْ من تُقَـاه زَادَ مُرتْحَـلِ
والتقوى هي المدد الذي يواجه به المسلم الصعاب في رحلته الطويلة إلى الحياة الآخرة، يقول أبو محمد بن سعيد:
تَزَوٌد وما زاد اللبيب سوى التقوىعساك على الهول العظيم بها تقوىفمن لم يعمر بالتقى جدثــــــــــا لهفمنــــــــزله في خلده منـــزل أقوى
ومن القيم الخلقية التي تغنى بها شعراء الزهد، وأشاعوها بين الناس الصبر، ففي الصبر خلاص للنفس البشرية من الضجر الذي ينتاب الإنسان من جراء التفكير الطويل في حب المال والجاه، وهو سيد الصفات التي يتحلى بها الزاهد إذا ما حزبه الأمر، وحلت بساحة المصائب، يقول الزاهد أمية بن أبي الصلت
يقولون لي: صبراً وإني لصابـرعلى نائبـات الدهر وهي فواجعسأصبر حتى يقضي الله ما قضىوإن أنا لم أصبر فما أنا صــانع
ويشيد الزاهد أبو زيد الفازازي بقيمة الصبر، ويتحدث عن وجوب التحلي به إذا ما تعرض الإنسان لمكروه، ويحث على ترقب الفرج من عند الله، ويستلهم من صبر الأنبياء العظة والعبرة، كل ذلك بأسلوب يغلب عليه طابع الوعظ والإرشاد والنصح:
وإن غدت أزمة فاصبر لشدتهاإن الشدائــد تأتي ثم تــــنقرضوالعسر يتلوه يسر إن صبرت لهضدان: هذا وهذا عندنا عرضسفين صبرك نحو الأمر يدفعهافاصبر قليلا فمن قدامك الفرضفي شأن يوسف إن فكرت معتبروهو الدليل الذي ما فيه معترض
وإلى جانب الحث على الصبر والتجمل وضبط النفس حذر الغضب، فالدعوة إلى التسليم للقضاء والقدر، وترك الأمور للمقدور، والرضا بما قدره الله برزت واضحة جلية في كثير من الشعر الزهدي، يقول ابن الأبار:
أما أنــه قد خط في اللوح ما خطافلا تعتـقد للدهر جورا ولا قسطا
ولا تسخط المقدور وارض بما جرى عليك به أن الرضا يفضل السخطا
ومن يتأمل بعض أشعار الزهاد، يجدها تضع أسس السلوك المثالي فى المجتمع الذي يتعين على أفراد المجتمع فى عصره انتهاجها، ومن هذه القواعد السلوكية المبنية على أسس التربية الإسلامية التسامحُ وغفران زلة الصديق، والتحريض على بذل الصدقات للسائلين المحتاجين، والمبادرة بمجاهدة النفس وترويضها، وبيان آداب الزيارة الإسلامية، يقول الزاهد المارتلي:
إلمام ثقيل قد أضر بنانروم نقصهم، والشيء يزدادومن يخف علينا لا يلم بناوللثقيل مع الساعات ترداد
وهذه النصائح والحكم والمواعظ، وإن كانت مستقاة من القيم الإسلامية، فإنها تنبع عن دوافع ذاتية خالصة، وتعبر عن تجربة عميقة، وهى ثمرة من ثمار خبرة الزاهد الطويلة فى التعامل مع الناس، فجاءت فى مجملها نظرات صائبة فى الحياة والناس.
ومن أبرز المضامين الزهدية فى أشعار الزاهد ابن قسوم ما أورده من حكم خلقية هي نتاج تجربة ذاتية، وخبرة طويلة فى الحياة، مكنته من أن يستخلص من أحداثها دروساً مستفادة، وعبراً معيشة، وهو يبسطها فى معرض ديني، ويتناولها من وجهة نظر الزهاد والمتعبدين، فقد ٍأكثر من الدعوة إلى الفضائل الرفيعة، والمثل الخلقية العليا، وحض على تجنب الرذائل، وذميم الفعال، هادفاً إلى تهذيب النفوس وإصلاحها، وتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس.
فمن محاسن الأخلاق التي أكثر من الدعوة إليها التحلي بمبدأ الشورى بحسبانها قيمة خلقية عظيمة، توفر للمجتمع الإسلامي فى عهده القوة والسلامة، فى الوقت الذى كان استبداد ولاة الأمر من الحكام والأمراء بآرائهم، وانصرافهم عن الأخذ بمبدأ الشورى سبباً من أسباب انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى فى حجر حملة الصليب:
شاور أخا الحزم إن نابتك معضلةفالرأي للرأي منجاة من الغررلا تصدعن برأي مـنــك منفرداحتى تشاور أهـل الحلم والنظر
وابن قسوم من الزهاد الذين يعتمدون فى مضامينهم الخلقية على التجربة العملية، لا على المعلومات الدينية، فيحذر من مبدأ التناقض بين القول والفعل؛ لأن الزاهد الحقيقي لا يخالف قوله فعله، وسره علانيته، وهو يعمل بما تعلم، فثمرة العلم العمل به، يقول محذراً الذين يكتمون العلم،ويتكبرون على الناس بعلمهم:
إذا أنت لم تقرأ لتعلم سنةفتأتى معروفا وتقلع عن نكروإلا ففيم الجهد والكد والعناوقطع الليالى بالدراسة والذكرتجر ذيولا حذر الشرع جرهاوها أنت من نص الحديث على ذكروتأنف كبرا إن وعظت ديانةوإنك ذو علم بما جاء من الكبـر
إن الشاعر الزاهد يستلهم هذه المعاني الخلقية من قول الرسول علية الصلاة والسلام:"مثل الذى يعلم الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة، تضيء للناس وتحرق نفسها.
وفي إطار دعوة الشعراء الزهاد إلى تشخيص النقائص الخلقية والآفات الاجتماعية التي أدت إلى فساد النفوس وانحرافها عن النظام الخلقي في الإسلام، فإنهم أنكروا شيوع بعض الخصال السيئة في المجتمع الأندلسي مثل: الحسد والحقد والرشوة وزلل اللسان، وانعدام الوفاء ومكر الناس وغدرهم، وغير ذلك من ذميم الخصال، وسيئ الصفات.
وتعد دعوة الزاهد إلى تصوير النقائص الاجتماعية، والأنماط السلوكية الشائنة فى المجتمع وسيلة من وسائله لنقد الأوضاع الاجتماعية فى عصره، وكشف ما شاع فيها من فساد خلقي، وتفكك اجتماعي، وغياب للفضائل الدينية، متمثلاً فى تنافس أهل ذلك الزمان على تقديم الهدايا إلى ذوى الجاه والسلطان، وهذه الظاهرة تعد مظهراً من مظاهر الفساد الاجتماعي، وصورة لضعف الوازع الديني فى نفوس الناس.
فالزاهد أبو عمران المارتلي يحذر من الرشوة بكونها لوناً من ألوان الرذائل، ومبعثاً على فساد الضمائر، فهو يوصى أبناء عصره بعدم قبول الهدايا فيما يبدو وكأنه أمر قد شاع في المجتمع الأندلسي، وانتشر بين أفراده، يقول في أسلوب وعظي:
احذر هدايا الناس تأمن المَنَّ بـها أو قول واش يـــــــشيكانت هدايا ثم عادت رشاوفي الرشا الهلك لمن يرتشـــــي
ويحذر أبو الحسن على بن الجعد من زلل اللسان واستخدامه لغير ما قدر له:
إياك من زلل اللسان فإنماقدر الفتى في لفظــه المسموعفالمرء يختبر الإناء بنقرةليرى الصحيح به من المصدوع
ويدعو الشاعر أبو القاسم خلف بن خلف الأنقر إلى حفظ اللسان حتى لا يقع صاحبه في الزلل:
احفظ لسانك والجوارح كلهافلكل جارحة عليــــك لسانواخزن لسانك ما استطعتفإنهليث هصور والكلام سنان
ومن النقائص الخلقية التي شخصها الزهاد في أشعارهم الخيانة والغدر والمكر، فأبو يحيي ابن بقى السرقسطي يرى الناس من حوله ثعالب يجب الحذر منهم :
وما أكثر الأقوام إلا ثعالبـــــــــاًتروغ ولا يجلى لديها بطائليردون ذهني حائراً في طباعهمكأنهم من مشكلات المسائل
فالشاعر الزاهد لا يفوته أن يبدى رأيه فى أهل عصره، فقد خبر الناس وأخلاقهم، والدنيا وأحوالها، وهو صاحب نظرات ثاقبة فى شئون الحياة، وطبائع الناس، وهي نظرات وليدة التجربة الشخصية، لهذا فهي تشع إيماناً وصدقاً، لذا اندفع الزاهد ينصح بإيثار السلامة والنجاة من شرور مخالطة الناس ومشاركتهم؛ لأن طبيعة الناس فى عصره بنيت على التلون والغدر والخديعة، يقول الزاهد ابن قسوم:
تجنب ما استطعت إخاء قومحديثهم إذا اعتبروا عجابفظاهرهم إذا نظروا ثيابوباطنهم إذا خبروا ذئاب
وتدفعه نظرته المتشائمة إلى التحذير من شرور الناس وغدرهم قائلاً:
لا تقرب الناس تسلم من غوائلهمإن السعيد فتى لم يعرف الناسالا تصحبن أخا غدر ومنقضـةللعهد ليس يرى فى نقضه باسايلقى أخـاه ببشر ضــــاحكا فإذاكبا به الدهر لم يرفع بـــه راسا.
وإذا كان هذا هو شأن بعض أفراد المجتمع من التخلق بأخلاق المكر والخداع والخيانة، فماذا على الزاهد أن يفعل؟، إنه أمام أمرين: إما أن ييأس من الناس، ويتجه الى العزلة والوحدة بعيداً عنهم، وإما أن يخفف من مثاليته، ويتقبلهم على عيوبهم، ويروض نفسه على أن يغفر لهم زلاتهم، ويكون الإنسان المثالي.
إن المتفحص لأقوال الزهاد وتجاربهم، يكتشف أنهم اختاروا الأمر الأول، ألا وهو حياة العزلة والوحدة واليأس من الناس؛ حتى يكونوا بمنجاة عن شرورهم؛ لأن في مخالطتهم كَلْماً للدّين في حين يسعى الزاهد لإحراز الآخرة، فضلاً عن أن حياة العزلة والوحدة والاعتكاف هي مبدأ من مبادئ الزهد يلتزم به الزاهد في سبيل العبادة والتأمل والتفكر في عظمة الله وقدرته، ويجد فيه دوحة للأمان، ومرفأً يوفر له لوناً من الحياة الآمنة المطمئنة، يقول أحد الزهاد:
رأيت الانقباض أجل شيءوادعى في الأمور إلى السلامةفهذا الخلق سالمهم ودعهمفرؤيتهم تؤول إلى النــــــدامهْولا تعنى بشيء غير شيءيقود إلى خلاصك في القيـــامه
أما الشاعر الزاهد أبو بكر التطيلي فقد كشفت له تجربته الذاتية في مخالطة الناس حقيقة أمرهم، ودفعه يأسه من إصلاح ما انهدم من قيم خلقية سامية إلى أن يسوغ لنفسه اعتزال الناس؛ تجنباً لشرورهم وأذاهم:
قد بلوت الناس شرقاً وغرباًودعوت الصبـــــــر حزناً فلبىفالتزم حالك صبــــــراً وإلازدت بالعجز إلى الخطب عجزا
إن مثل هذه النظرة التي تفضي إلى قطع العلائق بأهل الدنيا والاتجاه الى العزلة والوحدة، لا تتوافق وتعاليم الإسلام التي لم توص بنبذ الدنيا وأهلها، وإنما أوصت بالاتصال بالحياة والاندماج معها، والالتصاق بالناس، والمشاركة الإيجابية في الحياة اليومية، وأداء الواجبات الدينية والوطنية.
وإلى جانب الدعوة إلى اعتزال الناس فقد دعا بعض شعراء الزهد إلى الصمت؛ ذلك أن الزاهد يفضل الصمت على أن يخوض في مآثم المجتمع ومعاصي أهله، يقول الزاهد ابن قسوم:
مت بداء السكوت، فالصمت حكمرب نطق والموت طي جوابهِواخزن السر في الفؤاد فما ضــمحسام الكمي مثــــــــل قرابــهِ
فالشاعر يرى في الصمت حكمة بالغة، والعابد يكون أقرب إلى الله في صمته منه في صخبه؛ لذا اتخذ العباد صوامع لهم في الجبال، وقد ساق الشاعر رؤيته في صور بلاغية تشبيهيه واستعارية تجسيمية، وحكم موجزة سيقت للبرهان على صحة فكرته، وللتدليل على دعواه بأنها ممكنة وصحيحة.
ومثل هذا الموقف من جانب الزاهد يعد من المواقف السلبية التي غدت تشيع في حركة الزهد في الأندلس التي صارت فيما بعد من آداب أهل التصوف؛ ذلك أن أخلاق الزاهد تتجافى عن كل ما هو بعيد عن تعاليم الإسلام وروحه.
أما الزاهد أبو زيد الفازازي فيذم في غير قطعة زهدية الخمر، وما يترتب عليها من أثار سيئة فى الفرد والمجتمع، وينصح شاربها بهجرها:
يا شارب الراح في أوقات غفلتهومستسراً بأبواب وأستـــــــــارإذا دجا الليل وأشمطت ذوائبــهخلا بكأس وأوتـــــــار ومزمارأما علمت بأن اللـــــــــــه مطلعيحصي فعالك من جهر وأسرار
وفي إطار السعي الدائب لمحاربة كل دعوة هدامة إفساد القيم الخلقية في المجتمع الأندلسي، فقد تصدى الزهاد لبعض ممن وصفوا بالبعد عن الدين من الزنادقة والفلاسفة الذين سلكوا سبيل التقية، وكان الزاهد ابن جبير وابن قسوم وأبو زيد الفازازي من أكثر الزهاد تعرضاً، وذماً لتلك الطائفة، يقول ابن جبير:
ظلت بأفعالها الشنيــعة
طائفة عن هدى الشريعهْ
ليست ترى فاعلاً حكيماً
يفعل شيئا سوى الطبيعهْ
والواقع أن شعراء الزهد في دعوتهم إلى التحلي بالقيم الخلقية قد سلكوا طريق الحكمة الزاهدة التي تتبع من تجاربهم الذاتية، ونظرتهم الخاصة للحياة، ومن حرصهم على تقديم النصائح للناس في وقت هم في أشد الحاجة إليها.
وغالبا ما كان شعر الأخلاق والآداب الإسلامية يأتي ممتزجاً بشعر الحكمة، إذ يتخذ الشاعر من الزهد منفذاً لشعر الحكمة، وهذا ما أدركه النقاد القدامى حين كانوا عند تصنيفهم للشعر يلحقون الزهد بجملة من الفنون المقاربة له نظير الحكمة والمواعظ، أو تحسين الأخلاق والقناعة.
بيد أن تلك الحكمة الزاهدة قد اتخذت ـ أحيانا ـ في أشعار الزهد الطابع والعظة والعبرة، وجاءت على شكل نصائح وعظات مباشرة، تقريرية الأسلوب، تفتقر لحرارة التجربة المعيشة، وغدت تخاطب العقل ولا تناجي القلب، فقدت بذلك قدرتها على إحداث التجاوب الروحي بين الشاعر والمتلقي.
والحقيقة أن إلحاح شعراء الزهد على الالتزام بالقيم الخلقية والآداب الإسلامية قد كان أولى حلقات الوصل بينهم وبين المتصوفة، ومهد بشكل طبيعي لظهور نزعة الحب الإلهي في الشعر الصوفي.
[1]
مشاركة منتدى
7 كانون الثاني (يناير) 2019, 19:31, بقلم اسماء
شكرا ياد/عبد الرحيم حمدان جزاك الله خير الجزاء اريد ممحصات ابن عبد ربه فهل من مصدر به ممحصاته ام ان الممحصات هى شعر الزهد