

«الطّريق إلى كريشنا» للدّكتورة سناء شعلان

في كتابها الفاتن "الطريق إلى كريشنا"، تصحبنا الأديبة الأردنية د. سناء الشعلان في مغامرة فريدة عبر الزمان والمكان والذاكرة والدهشة، حيث تمزج بين عوالم متباينة من الجمال والصراع، وتغزل من كل محطة من محطات رحلتها لحنًا خاصاً من التأمل والحنين والتساؤل العميق. وما هذا العمل سوى قطعة أدبية ساحرة من أدب الرحلات المعاصر، تتجاوز فيها المؤلفة السرد العابر للوقائع إلى بناء نصّ أدبي فلسفي/أنثوي/وجودي، يمسّ القارئ بقلبه وعقله في آن.
في معنى كريشنا وغواية العنوان:
العنوان ليس محض دلالة جغرافية، بل هو مفتاح روحاني وفلسفي للرحلة. فـ"كريشنا" في الفلسفة الهندوسية هو الإله الذي يجسّد الحنان والحب والرحمة، وارتبطت صورته بمعشوقته "راداها" كرمز للعشق الأبدي الخالد، رغم تعدد محظياته. هذا البُعد الرمزي لم يغب عن د. شعلان، فاختارت العنوان لتبوح منذ البداية بأنها تسعى، من خلال رحلتها، لا فقط إلى الاكتشاف الجغرافي أو السياحي، بل إلى الغوص في فلسفة هذه البلاد الروحية وأساطيرها ومللها ونحلها، وما تركته من أثر في الحضارات الأخرى، كما أشار رفيق رحلتها د. محمد ثناء الله الندوي.
الغلاف: أيقونة دلالية مشفّرة:
الغلاف يحمل كلّ ملامح العمل الأدبي المتقن: الغموض، الرمز، الدعوة للتأمل. أيقونة غلافها مزدحمة بالرموز الدينية، الطبقية، الأنثوية، الموسيقية، وفي خلفيتها جماهير محجوبة الرؤوس وكأنها تتابع عرضاً مسرحياً مرعباً لحياة حقيقية تعج بالفقر والتناقض واللامعقول. المرأة ذات العشرة أيدٍ التي تتوسط الأيقونة تحمل رموزاً للحياة والموت والدين والزراعة والفنون، وتلبس حلة زعفرانية بلون الهندوسية المقدّس. تحتها حشود، وفي الخلفية أسد وفيل وأدوات موسيقية، وفي أسفل الدرج جثث وأرواح ممزقة... لوحة تعبيرية تختصر طبقية المجتمع الهندي ومعتقداته العجائبية. وقد امتنعت الكاتبة عن وضع صورتها لأول مرة على الغلاف، لأنها أرادت أن تعكس صورتها الذهنية والروحية في هذه الرحلة العميقة، لا شكلها الخارجي.
صفحات لا تُنسى:
– صفحة 35: جملة واحدة تهزّ الكيان: "أصلي لك، لأنك صلاتي كلها"، تكتبها شعلان بعد أن رأت وجهاً هندوسياً ملأ قلبها بالدهشة والرهبة... صورة للحب الإنساني غير المشروط، في أرض تعج بالمعتقدات.
– صفحة 85: عيد الهولي بألوانه ورقصاته وضحكاته، تتحدث عنه الكاتبة بعين المشاركة والدهشة معاً، وتتساءل عن جوهر الفرح وسط عالم مليء بالحرمان.
– صفحة 123: تجربة وجودية كاملة، لحظة يقظة روحية، حيث تقول إنها شعرت بزلزال في داخلها لا على الأرض، ورأت ذاتها كما لم ترها من قبل. تاج محل (242 و244): أكثر من بناء، هو معبد للحب الخالد، كتبه شاه جهان على ضريح حبيبته. تصفه الكاتبة كقلب نابض في شكل قصر، وتعاتب زوجها طرافةً: لماذا لم تبنِ لي مثله؟
– صفحة 155: امرأة فقيرة تغني على الرصيف... تختصر الهند في صورة واحدة: الشقاء والجمال والإيمان والفقر والفرح.
– صفحات 278 و285: وداع الهند... لكن أيضاً ولادة جديدة. تعترف الكاتبة بأن ما رأته لا يكفي، وأن الهند لا تُعرف كلها أبداً: "لم يرَ شيئاً من يعتقد أنه رأى الهند كاملة
رؤية أنثوية حاضرة بقوّة:
ما يجعل هذا العمل فريداً هو حضوره الأنثوي الطاغي. الكاتبة لا تنقل ما رأت فقط، بل تحياه. تدخل عالم النساء، الأعراس، المطابخ، الأسواق، وتصف الأقمشة والتوابل والعطور والمجوهرات بوصفٍ حسي ووجداني. ترصد مكانة المرأة الهندية بين الأسطورة والواقع، بين الحب والتهميش. حتى حين تسخر، فهي تسخر بدهاء. اخترعت "الطريقة البطبوطية" لتجيب بها على أسئلة غريبة عن الطريقة الصوفية التي تنتمي إليها، وهو فن أدبي/ساخر يحميها من الغرق في نقاشات دينية وعقائدية لا نهاية لها. الرحلة كوثيقة اجتماعية الكتاب أيضاً مرآة لواقع اجتماعي لا يُروى في النشرات السياحية. تسافر شعلان إلى الجامعات والمراكز الإسلامية، وترصد كيف يتعلم الهنود اللغة العربية بشغف مذهل، ويحفظون كتب الأدباء كما لو كانوا شيوخاً لهم. تصف الفقر واللامساواة والطبقية، وتدين كل هذه المظاهر من خلال لقطات حيّة لا تفتقر للإنسانية.
أدب الرحلات بعيون امرأة:
تكتب د. سناء شعلان رحلتها بأسلوب سردي روائي، باسم "بطبوطة"، ترافقها أمها رحمها الله في رحلة روحية ومكانية وإنسانية. وتثبت أن أدب الرحلات ليس حكراً على الرجال، بل للمرأة فيه عينان ترى من خلالهما ما لا يراه الآخرون. وفي ذلك تؤكد ما كتبته: "للمرأة عينان مختلفتان، ولهذا تكتب بطريقتها، وتكشف كل شيء بصدق دهشتها ومفارقتها للعالم المعتاد." الطريق إلى كريشنا ليس كتاباً، بل تجربة حيّة. هو مرآة للذات، نافذة على حضارة، وصرخة وجدان في وجه الظلم والجهل. كتاب يعلّمنا أن الرحلة لا تكون خارجنا فقط، بل إلى داخلنا، وأن في التأمل جمالاً يوازي الاكتشاف. هذا العمل يستحق أن يُقرأ مرات ومرات، وأن يُدرَّس كأيقونة في أدب الرحلة النسوي المعاصر. تحية تقدير للأديبة سناء الشعلان التي كتبت هذا السِفر بلغة الروح، وأهدتنا إياه كقطعة من روحها.