الصدمــــة
– 1 -
الثالث فيفري ألفين ..
برد، جليد، وكآبة تحاصرني بلا رحمة أو يأس، و صداع يدق مساميره القاسية منذ المساء.
يؤرقني هذا الزكام اللعين ، أفسد علي متعة الكتابة. خطوط قليلة تدونها يا قلمي، وأنت يا يوميتي البائسة ما زلت عطشى لمزيد من الحكاية.. شهرزاد نامت قبل الفجر هذه المرة.. غلبها المرض المسكينة.. أو ربما ضجرت من فراغ هذا الكون ، من صمته الطويل، من أيام أغرقها الروتين في طوفانه الأخير.. منك أنت و مني أنا..
لم أكتب؟ ما جدوى سرد أحداث حياة كحكايتي؟ ما الطريف فيها؟ لا شيء ! مجرد إنشاء طفل في السادسة.. و يا ليثني في السادسة.. زمانها كان همي اللعب و الأكل و النوم و الكثير من أحلام اليقظة الجميلة، أردد فيها ما قرأت و سمعت من قصص أبطال زمان.
كم كنت أطرب حين سماع لفظة كاتب، أو أرى صورة أحدهم في التلفاز، أو في جرائد أبي رحمه الله.
الزمن تغير الآن، و إن بقيت ساعاته و دقائقه كما هي لم تزد و لم تنقص. الإنسان وحده تغير.. نظرته لقيم الأشياء تحولت.. الأولويات أعيد ترتيبها من جديد.. المهم اليوم إشباع الرغبة الحيوانية فينا، إرضاء أنانيتنا بأي ثمن..
حياتك يا عبد الرزاق لا تختلف عن حياة من حولك في شيء.. كلكم واقفون أمام المرآة عرايا لا رداء يستر التكشيرة و الشرود، الظاهر مكشوف و الباطن أيضا..
عبثا حاولت إثبات عكس النظرية.. عبثا حاولت السباحة عكس التيار.. سقطت يا عبد الرزاق رغم الجهد المبذول مع الشلال.. القاع موحل ، مقرف، مميت.
إنك الآن، حتى وأنت في فراشك الدافئ، مكبل بالسلاسل.. المدينة زنزانة، و العمر مأساة مؤبدة..
الكتابة ملجؤك ، روضة فرحك الوحيدة.. ولهذا رضيت بإدمانها و تكابد من أجلها المتاعب..
إنها الثانية بعد منتصف الليل.. سأنهض و أتوضأ، أصلي ركعات و أقرأ ما تيسر من القرآن، بعدها فقط أنام شاديا لنازك الملائكة قولها:
″ كان ليل، كانت الأنجم لغزا لا يحل
كان في روحي شيء، صاغه الصمت الممل
كان في حسي تخدير و وعي مضمحل
كان في الليل جمود لا يطاق
كانت الظلمة أسرار تراق. كنت وحدي، لم يكن يتبع خطوي غير ظلي.
أنا وحدي، أنا و الليل الشتائي وظلي″.
ثم أرتاح..
الرابع فيفري ألفين..
أستيقظ كعادتي متأخرا، إنه يوم عطلة.. العاشرة و النصف تنوح، تنعي في ضجر البداية، تخبرني في تمططي الطويل بدفتر مواعيدي الهامة:
10:45 فطور الصباح، 11:15 التسكع في الطرقات و الاتصال هاتفيا بالعروس الغالية، 12:00 الاجتماع مع ظلي في أي مقهى و دراسة مشروع لم يحدد بعد، 13:00 العودة إلى المنزل و الاستعداد لصلاة الجمعة، المساء مفتوح على كل الاحتمالات..
أقرأ وريد الصباح و كلي فرح.. تذكرت أني تمكنت أخيرا من صلاة الصبح في وقتها.. إنها كرامة من الله أن أنتصر على نومي و قريني الشاطر..
أقصد الحمام و أستحم، أحاول الانتعاش بماء دافئ كالحب، أتركه ينساب من المرش فوق وجهي، خلال أجفاني، بين شفتاي.. أتركه يمسد كتفاي و كل ظهري.. عضلاتي المثخنة بالنعاس تتنهد، تستفيق، تنفض عنها رمل الزكام و بقايا الصداع اللعين.. أكنافي تدافع الضباب و لا تبقي منه غير هالة تخايل البعد الممنوع..
أغيّر كل ثيابي، أرمي بكل ما يربطني بالبارحة لعل صلتي باليوم تكون بشارة خير..
أحلق ذقني.. أعاين هيكلي النحيل، المعقود بخمس وعشرين عقدة، يتمايل كقصبة تصارع الريح..
الوالدة تراقبني باندهاش، تعد مائدة الإفطار لي و هي تقول:
– صباح الخير، أراك نشطا اليوم!
– صباح الأنوار، و هل يعقل أن تصبح عين على محياك و لا تسعد يا أماه!
– أسعد الله عمرك يا بني، الفطور جاهز.
قهوة بالحليب و فطائر زبده و مربى و الكثير من هنيئا مريئا.
هاأنذا أدلف إليك أيها الشارع الهمجي.. هاأنذا أتلقى ازدحامك بفرح دخيل، ربما لأنه يوم جمعة، أو ربما لأن حاستي السادسة تستشعر متعة لم تتكشف بعد، لكن حدسي يخبرني أنه أمر مفرح، قد أكون متفائل أكثر من اللازم إلا أني سعيد بهذا التفاؤل الزائد، وهذا في حد ذاته طفرة في شعوري..
أنطلق في الشارع.. أمتطي الرصيف الأقل ازدحاما.. أقاطع وجوها مألوفة، سمتها المشتركة التكشيرة و الجدية.. الابتسامة مغيبة، احتكرها الطارئ.
أقطع الطريق بسرعة متفاديا السيارات المسرعة.. أوغل في الازدحام.. أعاين المحلات و البنيات بعين تختزل المشهد في قطعة من اسمنت و معدن وزجاج مغبر..
محل متعدد الخدمات يواجهني، يذكرني بمنبع أنس آخر، بك محبوبتي الصامتة، يا عشقي الخرافي.. أضغط أرقام هاتفك.. إنه يرن..يرن..السماعة تسأل:
– ألو..
أجيب:
– ألو.. صباح الخير..
– من؟
– عبد الرزاق .
– كيف حالك؟
– بخير والحمد لله..
– تريد أفراح أليس كذلك آسفة ليست هنا.
– حقا، يا خيبتي، أين ذهبت؟ هل ستتأخر؟
تضحك سعاد وتقول:
– لا تعجل..على مهلك، إني أمزح، إنها هنا.. و تضحك.
– سأناديها لك قبل أن تسقط بسكتة قلبية، فيضيع منا فرح الأسبوع القادم..
يا لها من فتاة مرحة، دائمة الابتسامة.. الحياة في ناظريها شعلة سعادة و الإنسان وحده من يقودها.. لا يهم أن تكون فقيرا أو غنيا، مشهورا أو مغمورا، المهم أن تعقل سر الحياة، أن تحسن فن العيش، هكذا قالت لي ذات يوم. صغيرة و حكيمة، صدق من قال يضع سره في أضعف خلقه..
السماعة تهتف، صوت كأنغام القيثارة يداعبني.
– ألو.. عبد الرزاق؟
أجل عبد الرزاق، أسمعك معشوقتي، فأنساب على الموج، يتقاطر رذاذ الافتنان الأول من أهدابي.. أسمع همسك الحنون كأنه قادم من عمق الأساطير مزدان بأكاليل و عبق الهديل..
– كيف حالك؟
– في شوق رهيب و انتظار دائم..
– لست بعيدة، بيتي على بعد خطوات..
– ولهذا يزداد ألمي.
– و لم لا تأتي.. ألست زوجتك شرعا و قانونا؟
– أعلم، لكنه الخوف من..
– من ماذا؟
– من أن نحترق بالنار و لم يبقى على الزفاف سوى أسبوع..
– وهل بقي ما يحترق فينا؟ ألا ترى أني عدت رمادا تذروه الريح؟
– لكننا كالفينيق سرعان ما ننتفض في أول لقاء، و يعود الحريق.
– متى تأتي؟
– آتي!
– نعم.. متى؟
– غدا صباحا..إنشاء الله..
– أكيد !
– أكيد.. قلت في مضض.
– سأنتظرك..
– سآتي و في يدي هدية..
– يكفيني حضورك..
– سآتي و في قلبي هدية..
– يكفيني أني فيه الملكة..
– و بعد أسبوع إنشاء الله ستكونين في بيتي ملكة.
فقالت، و قد أشرب صوتها بفيض من اللذة و الرقة:
– ياه، يكفيني يا حبيبي أن أكون فيه خادمة..
فهتفت بصوت ينساب عبر نسيم ورد دافئ:
– كم أتمنى أن تختفي المسافة بيننا فأضمك بين جناحي إلى أن تملي مني؛ و أضفت في همس؛ أحبك أفراح بجنون...
فقاطعتني و قالت:
– لا تكمل ، دع غزلك اللذيذ ليوم غد..
– إذن، إلى الغد إنشاء الله..
– إلى الغد..
– أفراح..
– أي نعم ..
– حفظك الله لي و رعاك..
– و أنت أيضا حبيبي..
و نقطع المكالمة.. أتريث في داخل حجرة الهاتف.. أضع السماعة و أتحسر.. ألم يكن من الأحجى أن لا أكسر بخاطري و أطيل المتعة السابغة؟
لم كلما أذرو على شفتي فرحة تنبو بها ؟هل هو العزوف عن المباهج المتجدر في جيناتي أم هي حماقة الخائف من ضوء الشمس ، المتواري بين أسوار سوداويتي المزمنة ، أم أن صدى الصدمات ما يزال يدور و يتردد في كوامني؟
ألم يئن لكل هزائمي أن يلفها الأفول، و تأذن لفوانيسي بالاشتعال، فيفشو النور أسراره في مدائني المغلقة ، و يقوض مناعة أحزانها، و ينسف إلى الأبد فسيفساء النتن المتراس في لب أعمدتها؟
عند المدخل المحل أقتني يومية الخبر، القي نظرة خاطفة على صفحتها الأولى و أغادر. أمتطي التسكع من جديد.. أتركه يجول بي في التواءات المدينة.. نفس المشاهد تتكرر، بنايات متشابهة، محلات متراصة، نوافذ مغلقة بأسيجة حديدية، و بين المقهى و المقهى تموضعت مقهى أخرى.
الديكور يعكس بأمان قيمة الجمالية في نسيجنا العمراني.. بناياتنا صناديق مغلقة، و أرصفتنا المسكينة زبالة دائمة، مرتع للمجانين و المتسولين و أشياء أخرى لا أخلاقية.
ياه، مللت من ترديد نفس الملاحظات، مللت من اجترار نفس المأساة، مللت من طرحك أيها السؤال الموجع، لم لا نتقدم إلا إلى نحو الأسوأ؟
الصداع اللعين خفق يغرز مخالبه الصدئة من جديد، يعاود انتشاره و اكتساح دهاليز دماغي المضطرب.
أقصد المقهى أمامي.. أحتل مائدة في الخارج.. أطلب عصير بن مركز.. أفتح الجريدة و أتصفح العناوين.. إنها تتقيأ بشاعة، أغلبها مقدمات لجرائم يندى لها جبين الإنسانية، كوارث نأت بعيدا عن قيم الأخلاق الإسلامية..
الجريدة عزاء دائم لضحايا مجازر أغوال بدائية، معقل لفضائح اختلاسات وبائية، رسم كاريكاتوري لمجاعة ضمائر وعقول..
الجريدة تراجيديا سوداء تروي وقائع وليمة كابوسيه تضج بالعويل و الأجساد الممزقة و الرؤوس المجتوثة و البطون المنتفخة و أفواه تلوك اللحم البشري و تعلن بلا حياء أنها لن تشبع إلا إذا امتلأت بالتراب..
أطوي الجريدة و ألقي بها بقرف.. أرتشف رشفتين بقلق.. فنجان البراس برد بسرعة أو كان باردا منذ البداية..
شاب عاري الجسد إلا من سروال جينز وسخ ممزق الأطراف أراه يقترب مني في تصميم..
ماذا يبغي عندي هذا المعتوه؟
يفاجئني .. ينقض على الفنجان، يبتلع ما فيه دفعة واحدة، و يفرقع قهقهة عجيبة..
غريب أمرك يا هذا؟ أتضحك على الرغم من حالك البائس أم تراك تضحك مني؟
شيء ما في يدغدغك، ربما هي كآبتي المزمنة أم تراك تبصر في ملامحي ما لا تعكسه مرآتي المهشمة..
تقهقه، و تقول:
– أعطيني عشرة دنانير تربح..
أعطيه شفقة.. يجلس أمامي، و هو يعاينني بابتسام مغبر.. يقول:
– أعرفك.. خارج أنت من كتاب أبيض، و في يدك حقيبة.. حقيبة كبيرة و ثقيلة.. جروح في جسك كثيرة.. وسبيلك متعرج وعر و طويل.. أتعرف؛ يبتسم؛ أنت لا تعرف..أنا لا أعرف.. العالم كله لا يعرف.. لكن من في السماء وحده يعرف أن دوام الحال أمر محال.. أجل محال، محال..
و ينتفض واقفا كأن به رعشة..يلتفت حول نفسه و ينط ثم يقول:
– دوام الحال يا ناس من المحال.. من المحال..
و كالطيف يختفي في الزحام..
كلماتك أيها الدرويش بشارة أم تراها نحس ينصب لي الكمائن في منعرجات العمر المتبقي؟
أرى الساعة.. إنها الواحدة إلا ربع.. مر الوقت بسرعة.. يجب أن أغادر.. موعد الصلاة حان.. يجب أن أسرع.. ابتعدت كثيرا عن الدار..
أدفع ثمن القهوة و أندفع مع الحشد المدبر.. تيارات هوائية جافة تقتحم الشارع بلا إنذار.. توقظ زوابع غبارية و تذروها في العيون و الأفواه اللاهثة..
الصداع يثور، تحفزه الشمس الساخنة.. علي أن أسرع.. يجب أن أتناول حبتين من الأسبرين و إلا انفجرت قبل الصلاة..
الصداع عدوي اللدود، نقطة ضعف مكشوفة.. كل الأوجاع أصبر عليها إلا الصداع، إنه يثير كل ألامي و يزيد من قتامة مشاعري..
أوسع في الخطوات.. أفكر في ركوب نقل جماعي لأختزل المسافة و الزمن.. أرى واحدا في الموقف ينتظر الامتلاء.. الطريق مزدحم بالسيارات المسرعة.. أثريت قليلا.. أغتنم فرصة وجود مساحة شاغرة و أقطع الطرق مهرولا.. بغتة، يلطمني صرير فرامل قوي و كتلة معدنية تصدمني من جانبي الأيسر و تقذفني عاليا..
فراغ أسود يتخطفني.. يبتلعني في لمح البصر دون سابق إنذار أو إشعار.. كل الوجود يتوارى من حولي.. الأصوات بدورها يلفها الصمت.. أغوص في هذا الفراغ، تجذبني أثقال رهيبة إلى العمق، إلى المجهول..
– 2 -
قطعة نور باهت تخرق السواد، تفتح في أديمه فجوة توصلني إلى نهاية النفق.. أحس بأجفاني ثقيلة.. أفتحها بصعوبة.. غشاوة تغطي بصري.. ألتقط مشاهد ضبابية.. وجوه منعدمة الملامح تعاينني.. تقترب مني.. أركز النظر لعلي أستبين التفاصيل.. أحس ألما في صدري..
وجه أمي ينحني علي، قسماتها شاحبة تبللها دموع كثيفة و ابتسامتها العريضة :
– حمدا على سلامتك يا ولدي.. أخيرا تستفيق..
ترتعد جوانحك أماه، أشعر بها تهطل شجنا و حسرة.
– كمدي عليك يا ولدي..
و تنفجرين بالبكاء.. يحتضنها أخي الأكبر.. عرفته، إنه هو أخي الأكبر.. و هناك بجانب باب الغرفة أخي الأصغر..
– ما الذي حدث؟
نطق بصعوبة، الألم في صدري يخنقني.. يلوكني..
– أولاد الحرام.. لم يجدوا غيرك ليطلقوا عليه النار.. قالت والدتي في غضب.
– إنها رصاصة طائشة يا أماه.. أضاف أخي الأكبر.
لا أ فهم.. ذهني يعجز عن الفهم.. فجوة كبيرة تشكلت في تلافيفه.. يداهم الغثيان مداخل سراديبه المفتوحة.. يطارد ما تبقى من يقظتي العرجاء، و يحتل مواقعها بلا اقتحام.. الوجوه تتلاشى كالفقاقيع ، تنطفئ.. أعاود السفر في الفراغ.. أعاود الغوص في هذا الفضاء المظلم، في هاته المنطقة المحرمة على الوعي..
أصوات مبهمة تتناهى إلى مسمعي.. جلبة تهزني هزا.. تنبهني، تدعوني لاقتحام البوابة..
– عبد الرزاق .. أفق يا حبيبي.. أرجوك عد لأهلك.. أرجوك لا تتركني وحدي.. كلنا في حاجة إليك.. عبد الرزاق..
أفتح وعيي من جديد.. أستجيب للنداء بصعوبة و استقبل الضوء بشهية.. نفس الديكور.. الهياكل البشرية تبدلت.. امرأة تجلس على حافة السرير اليمنى، كفها اللدن يحتضن كفي، أناملها تداعب شعري.. أحسها ناعمة، سلسة تمسده في هدوء و رقة..
على الرغم من التجاعيد إلتماعات الجمال لا تزال تشرق من وجهها ، لم يعيبها الزمن المتقدم.
فتاة أخرى بجانبي الأيسر واقفة تنظر إلي بحزن ، تحاول جاهدة إخفاء عبراتها المتدافعة .
أتنقل بتثاقل بين الوجهين.. أبحث عنهما في دفاتري القديمة.. أتساءل.. أحتار.. وجهك يا سيدتي مألوف.. بريق عينيك الرماديتين يفوح بالعبق المحبوب..
الآن فقط تذكرتك.. أنت أفراح عروسي المنتظرة.. لكن، لم أراك مسنة؟ و الفتاة هل هي سعاد أختك؟ لا إنها مختلفة، لا تشبهها.
– أفقت حبيبي.. حمدا على سلامتك.. قالت أفراح بانشراح.
– الجراح أخبرنا بنجاح العملية، و بأنك ستغادر المستشفى بعد يومين على الأكثر. فحمدا لله على سلامتك يا أبي، هتفت الفتاة بفرح.
كأني فقدت الذاكرة. إنها تنادني يا أبي ؟ مستحيل رددت في نفسي باستغراب.
في هاته اللحظة دلف الطبيب.. اقترب مني، و أخذ يفحصني و هو يقول:
– جيد.. كل شيء على ما يرام.. الحالة تستقر.. أهنئك يا أستاذ، العملية نجحت مائة بالمائة.. الورم الخبيث لن يزعجك بعد الآن.
الفجوة تزداد اتساعا.. كل خيوطي تداخلت، و لم أعد أفهم شيئا..
– على أي ورم تتحدث يا دكتور؟ أنت مخطئ.. أنا مصاب برصاصة.. هذا ما قاله أخي الأكبر منذ قليل.. أين هو؟ و أمي أين هي؟
– إنه المخدر، قال الطبيب، الهلوسة مألوفة.. دعوه يرتاح الآن.. في المساء سيكون أفضل.
– حسنا يا دكتور.. نراك غدا يا أبي، سأحضر لك هدية.
و قبلتني الفتاة و أفراح ثم انصرفا على أمل الشفاء العاجل..
هلوسة مخدر، المخدر أفقدني القدرة على التمييز و الإدراك.. خدر ذاكرتي و جعلني أنطق بأوهام .
إنها مأساة أن تنسى من تكون، أن تفقد حاسة الأبوة..
أحفر بكل معاولي فيك ذاكرتي.. أبحث عن أشيائي تحت أنقاض صرحك المنهار،عن خيط يوصلني بالماضي القريب..
الفجوة شاسعة، تنغلق على فراغ عظيم.. هل يعقل أن تمحى أعز الأيام من قرصي الصلب؟ أيعقل أن يكون المخدر وحده السبب؟ و هل حقا سأستعيد كل تاريخي بعد زوال مفعوله عند المساء؟ هل سأتذكر يوم زفافي، يوم ولادتك طفلتي الجميلة؟
أنها أزمة .. حيرة .. أم تراها هلوسة؟
المساء كئيب ، عامر بالآلام و المشاهد المؤثرة.. مرضى و أنين.. لهذا أكره المستشفيات و رائحتها.. لهذا أفضل العلاج في البيت على المكوث في أفخم أجنحتها.. الأنين يجرحني، يخدشني و يجعلني أتقاطر كالشمع.. إنه يؤرقني و يخلق لي كوابيس مستمرة..
المساء رحل ، و النهار رحل و لم يغمض لي جفن.. أحس بالإعياء.. سأقاوم أكثر، سأضل مستيقظا و حينما أعود إلى بيتي سأرتاح..
والدتي تدلف.. تظهر بعكازها و خمارها الأبيض الناصع كالملاك، و خلفها أفراح و ابنتي تدفع كرسيا متحركا و الفرحة ترف من وجوههم.
أستقبل القبلات الحارة بسرور.. اليوم أغادر المستشفى.. أمتطي الهدية.. أشكر الممرضات و الطبيب.. أودع المرضى و الزائرين متمنيا لهم الشفاء العجل و طول العمر..
أغادر الجناح و الكل يراقبني بابتسام راجين لي الشفاء و الصحة الدائمة..
في الخارج أجد حشدا من المصورين و سيارة فخمة في انتظاري.. الحشد يغرقني بوابل من الأضواء و الصور.. يفاجئني بأسئلة تستفسر عن الصحة و العملية.. أستغرب كل هذا الاهتمام بشخصي، أنا الموظف البسيط في دار ثقافة منسية..
ألزم الصمت.. أكتفي بالإصغاء إلى أفراح و هي تشكرهم على اهتمامهم و تعلن لهم أني تخطيت الأزمة بسلام..
أركب السيارة و بجانبي والدتي و زوجتي بينما تجلس ابنتي في كرسي القيادة.. المدينة تنكشف خلف الزجاج متغيرة.. كل شيء تبدل.. عماراتها، فيلاتها، شوارعها، أشجارها، بشرها.. كأني في جولة باريسية..
هل يعقل كل هذا التحول؟ أين الغبار، أكياس البلاستيك المتناثرة هنا و هناك، الزبالة المتراصة فوق الأرصفة و تحت العمارات المشوهة؟ القذارة اختفت.. سبحان الله، هل يعقل أن تتبدل الأحوال إلى الأحسن و الكل كان يزم أننا لن نتقدم إلا إلى الأسوأ؟
علي من الآن أن أعتاد على هذا الوضع الجديد، و لأبدأ بإغلاق أفواه الدهشة، و لأفتح ذهني للفهم المضاعف لعلي أحط مجددا في الراهن. سأقول أني فقدت الذاكرة بمفعول المخدر، و أن بدا هذا العذر غير منطقي.. الأكيد أني سأسترجعها في بضعة أيام..
تتوقف السيارة في فناء واسع بوسط حديقة مسورة.. الكل يهرع إلى مساعدتي على النزول.. أقتعد الكرسي المتحرك في صمت.. الكلمات احتبست في حلقي.. عجزت عن التعبير..
ديكور الداخل يفضح ثراء الأسرة.. أرائك و زرابي ، جدان و سقف مزخرفة بنقوش جميلة، إطارات بصور عائلية و صورة كبيرة لي و أنا أتسلم وساما من شخصية سامية لا أعرفها..
اقترب من المرآة في الصالة.. أبصر كهلا تخطى الخمسين.. أجول في تفاصيله مليا.. لا أصدق أني انتقلت إلى هذا العمر بهذه السرعة.. كيف حدث ذلك؟ هل يعقل هذا؟
تقترب مني أفراح من خلف، تمسد كتفي بحنان و هي تقول:
– لم تتغير المرض لم ينل منك.. أترى بقيت كما كنت.. بسمتك و شعرك الغزير..
– الظاهر يا عزيزتي سليم لكن..
– لكن ماذا؟
و بحسرة أقول:
– أعتقد أن شيئا ما حدث لذاكرتي..
– ماذا تقصد.. لم أفهم..
– لم أعرف ابنتي و لا مدينتي و فوجئت كثيرا حينما أبصرت منزلي..
– إنه الإعياء فقط.. أنت لازلت تحت تأثير المخدر.. فهل يعقل أن تنسى أشياءك العزيزة لمجرد عملية استئصال ورم في بدايته؟
على الرغم من ذلك بدت على محياها علامات القلق.. فأخبرتها أني أريد الراحة، فالتعب نال مني كلية..
رافقتني إلى غرفة النوم.. خلعت ملابسي.. ناولتني أدويتي و تركتني على السرير مسجى بصداع يضرب بمعاوله الثقيلة..
شريط صور قديمة خفق يمر بسرعة أمامي.. مشاهده تختزل الماضي.. أراني في غرفتي معزولا بلحية طويلة، أواجه نفسي لأيام و ليال.. أنتقدها بصرامة، أكشف عيوبها، و أرد بحزم مبررات تقاعسها و فشلها في إثبات الذات.. أمزق بغضب الحظ العاثر و ألقيه في النار.. أقنعها أن المستقبل يصنع بأياد الجد و الصبر و الطموح الدائم..
أراني أكتب و أطالع في جد و أنشر كل ما أكتبه في الجرائد و المجلات.. أراني أنتقل من الظل إلى النور بثبات..
أراني أصنع من انهزاميتي السوداء بساط ريح يحملني إلى أبراج قوس قزح..
أراني في يوم زفافي و الكل فرح و نشوة مرفرفة ترفعني إلى مصافي السعداء..
أراني أرتقي في الوظيفة، و أحمل في يدي رواياتي مطبوعة و قد نالت النجاح و الذيوع..
أراني أحمل طفلتي الوليدة مرددا اسمها خلود..
أراني أشترك في مشروع تجاري مع صديقي الحميم..أرى الثراء يفتح أبوابه لي..
أراني ألج منزلا جميلا رفقة الوالدة و الزوجة تتجول بمرح في أرجائه.. نفرشه بأرائــــــــــك و زرابي رفيعة..
أراني على الأرض مصابا بوعكة صحية و الكل حولي يبكي..
الرؤية تنقطع .. فيض الماضي يتوقف.. يقنعني بأن ما أنا فيه الآن واقع قائم و بأن ما أشعر به من اغتراب ما هو سوى حالة نفسية ناتجة عن الإحساس بالضعف..
الحلم تحقق يا عبد الرزاق ، و ها أنت ترنو إليه قائما في شموخ..
الصداع يثقل و يثقل.. إنه بنفي ما تبقى من قوتي و يخول للاوعي صلاحيات التحكم في حواسي.. يسلمها لزعامة الكمون و الغياب..
يد ضخمة تتمدد من بعيد، تقتحم أسوار الظلام، تحررني من قيود خفية، تحتويني في قبضتها و تسحبني بقوة إلى الخارج..
أصوات خافتة تتناهى إلى مسمعي.. رائحة المطهرات تنبه شمي.. أشعر أني أستفيق من سبات عميق.. رأسي ثقيل، و أوجاع خفيفة تسري في كامل جسمي..
أفتح أجفاني المتعبة على النور.. ألمح وجه أمي الشاحب.. قامة أخي الأكبر.. ابتسامة أفراح الحزينة.. أنتبه إلى رجلي اليسرى معلقة و ملفوفة بالجبس.. تقترب والدي من وجهي.. تمسده بكفها الحنون و هي تقول:
– استفقت حبيبي أخيرا.. حمدا لله على سلامتك..
و تتنهد أفراح بانشراح:
– أجل استفاق أخيرا..
و ترفع يدها إلى السماء حامدة الله.
و بصعوبة أقول مستفسرا:
– أماه.. جسمي كله يؤلمني..
– أمر طبيعي.. الصدمة كانت عنيفة، حتى السيارة تهشمت، قال أخي بتأثر ظاهر:
– الكل كان يحسبك حتما ميت، أضافت أفراح:
– لكن الله أنجاك برحمته.. قالت أمي.. و لم تصب إلا بكسور بسيطة في الساق..
ألزم الصمت.. الحالة حرجة تدعو للتريث.. الأمور اختلطت علي و دماغي أشعر به عاجزا عن التخيل و الاستنباط..
هل أصدق ما أسمع أم أكذبه ريثما تتضح الرؤيا..
الأكيد أن الأوجاع السارية في جسدي الآن صادقة و الصداع أيضا..
منذ فترة وجيزة كانت أفراح مسنة، و أمي عجوز بعكاز، و أخي غائب، و أنا في غرفة نومي، و الآن أراهم كما عهدتهم، لم يتغير فيهم شيء.. هل ما رأيته و أراه هلوسة أحلام أم هو الجنون؟
– الصداع أماه، أقول في توجع..
– سأحضر لك الدواء حالا..
و تلتفت نحو طاولة الدواء.. تنتزع حبتا مسكن و تناولهما لي مع كأس بارد..
أجفاني لوحدها تنغلق.. أفقد السيطرة عليها.. النوم يغلبني، فأنام بهدوء.
– 3 -
الثامن فيفري ألفين..
أشعة هذا الصباح المغرد تدلف من النافذة بجلال، تمرر أناملها في رقة و دفئ لذيذين على وجهي الشاحب.. نسمة بحرية طريفة تحلق بنشوة في أثير الغرفة الواسعة..
أجدني بعد ثلاثة أيام غيبوبة في تحسن مستمر، و حدهما ساقي و صدري يشكلان لي إزعاجا متواصل إلا أني أشعر بسعادة غريبة تخالجني كأني عائد من غربة طويلة و قد تملكني ارتعاش الولادة.
باقة الورد الأحمر و الأبيض تترقرق بعبقها الزكي في نشوة بجانبي الأيسر.. أسمعها في إنائها الفخاري الأنيق تنشد قصائد الحب و السلام.. لا شيء يضايقها أو يسبب لها انغلاقا في الحنجرة..
ذرات الغبار نفسها تتراقص تحت الشمس كجنيات ألف ليلة و ليلة.. النور الساطع أحسه لأول مرة يتغلغل في كل مسامي كفيض حب عارم.
أفراح تدخل الغرفة، تدهشها برشاقة قدها و بريق عينيها الرماديتين..
تقبل نحوي كعروس بحر تلاعب الموج الصغير و على ثغرها ابتسامة تكشف مفاتنها للعالم.. تبدد في سلام وحدتي في هذا الركن المنسي..
تقتعد الكرسي بجانبي الأيسر، و ترنو إلي في انتشاء.. تحمل يدي بين كفيها الدافئتين و تهتف:
– أراك أحسن حالا..
– الحمد لله..
– يومان و تغادر المستشفى..
– أود البقاء أكثر..
– ولم ؟
– لأراك كل يوم و أنعم بالجنة..
– يا رجل، لم يبق إلا القليل و أكون لك إلى الأبد..
– موعد الزفاف تأجل، أ ليس كذلك. أقول في حسرة.
فتقول بأسف:
– أجل، المهم أن تعود إلى كامل صحتك..
يغلبني الصمت رغم أني أود تبشيرها بولادتي من جديد.. أود أن أزف إليها نبأ انهزام السوداويتي.. الصدمة شحنتني برغبة الكفاح و الوصول.. علمتني ما كنت أجهله.. أكدت لي صدق مقولة دنييل بل " المستقبل ليس قوسا سماويا يتخطى المسافات و إنما هو جسر يبدأ من الحاضر، من القرارات التي نتخذها الآن .".
لا أدري لم حفظت هذه المقولة، و لا أين قرأتها، و لم تذكرتها الآن كل ما أعرفه أني اتخذت قراري وحددت هدفي، و أنا على يقين أني سأبلغه في يوم آت لا محالة.