

البحث عن الشعر الساخر!
نادر ندرة الابداع، وندرة الابتسامة المشرقة على الشفاة المجروحة!
فما الذي أصاب شعراءنا، حتى قاطعوا الشعر: الضاحك، أو: الباسم، أو: الساخر...، وخف نتاجه؟!..
.. أهو: جفاف في القريحة، و"نشاف" في العبقرية، وعدم خفة في الروح؟
.. أم: هي الحالة المضطربة التي يعيشها العالم من أقصاه إلى أقصاه؟
.. أم: هو استهتار بهذا النوع الهام من الأدب الذي يروح عن النفس، ويزيل عن القلب ما علق فيه من هموم يغص بها هذا العالم الفسيح؟
.. أم هو: الزهد في الحياة؛ "فمن يحب الضحك فهو بالفعل يحب الحياة"، كما قال بيرجسون؟!
الأسئلة وهي تحثنا إلى المستقبل، تعود بنا إلى الماضي، القريب منه والبعيد، حيث كان هذا اللون من أهم أبواب الأدب، وأربابه من أبي نواس إلى الجاحظ وابن الرومي، وغيرهم...
فمن ابرع الصور الفكاهية التي تتمثل في شعر ابن الرومي، وصفه لرجل أحدب:
قصرت أخادعه وغار قذاله فكأنه متربص أن يصفعا وكأنما صفعت قفاه مرة وأحس ثانية لها فتجمعا وكانت له قصائد كثيرة في هجاء البخلاء، قال عن أحدهم، واسمه: "عيسى":
يقتر عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد
ولو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد
قيل لإبراهيم بن أدهم: لم تجتنب الناس؟، فأنشد يقول:
ارض بالله صاحبا وذر الناس جانبا
قلب الناس كيف شئت تجدهم عقاربا
وقال ابوالعتاهية في وصف اخلاق بني آدم:
بنو آدم كالارض ونبت الأرض ألوانفمنه النخل والعنب وزيتون ورمانومنه الحنة الخضرا وياسمين وريحانومنه الصفط ذو شوك وفوق الشوك قطران
وعن رجل كبير الأنف، قال شاعر:
لك أنف يا ابن حرب انفت منه الانوفأنت في القدس تصلي وهو في البيت يطوف
وآخر يصف رجلاً بديناً ضخماً، قائلاً:
أنت يا هذا ثقيل وثقيل.. وثقيلأنت في المنظر إنسان وفي الميزان فيـل
وقال الشاعر اللبناني ابن الفرنجية، في هجو مغن:
قد دهاني ما دهانيمن ثقيل في الأغانيقلت إذا غنى عراقـاليتني فــي اصفهان
أما الشاعر الحلبي فتح الله بن محمود البياوني، فله بيتان ظريفان في النظارات، قالهما لصديقه عابه في حملها، ثم اضطر هو إلى استعمالها:
رب صديق عاب نظارةيقوى بها الناظر من ضعفهوعن قليل صار في امرهايحملها رغما عــــلى انفه
وكان الشاعر المجوني اسعد رستم، صديقاً لأحد المحامين، فارسل إليه هذا المحامي صورته، التي تبدو فيها: يده في جيبه.. طالباً أن ينظم فيه بيتين من الشعر، فقال الشاعر اسعد رستم:
اخذ المحامي رسمه وبجيبه يدهوذلك ليس مـــن مـبداهفقد كان هذا الرسم أحسن منظرلو صورت يده بجيب سواه
أراد شاعر النيل حافظ ابراهيم، أن يداعب أمير الشعراء أحمد شوقي، فقال:
يقولون إن الشوق نار ولوعــةفما بال شوقي أصبح اليوم بارداً
فما كان من شوقي إلا أن رد، قائلاً:
استأمنت الكلب والانسان امانةفالانسان خان والكلب حافظـــا
وأراد أحمد شوقي، مداعبه صديقه الدكتور محجوب ثابت، الذي اشترى سيارة قديمة، فقال له:
لكم في الخط سيارةحديث الجار والجارةاذا حركتها مالتعلى الجنبين منهارةوقد تحزن احياناوتمشي وحدها تارة
ومن الشعراء من كان يدرس التاريخ، ويستوحي منه اشعاره..
فقد كان المصريون القدماء، يعاقبون الزاني بسمل عينيه، وكان الرومانيون يعاقبون الزانية بجدع انفها.. فقال الشاعر اللبناني طانيوس عبده في هذا:
فلو وصلت شرائعكم اليناعلى ما نحن فيه من مجونلاصبحت النساء بلا أنوفواصبحت الرجال بلا عيون
والبعض يستوحيها من القصص الطريفة، ومنها:
كان ذئب ينتاب بعض القرى، ويعيث فيها فساداً واضراراً؛ فترصده أهلها حتى صادوه، وتشاوروا في تعذيبه:
فقال بعضهم: نقطع يداه ورجلاه وتدق اسنانه ويخلع لسانه.
وقال بعضهم: بل يصلب ويرشق بالنبال.
وقال بعضهم: بل توقد نار عظيمة، ويلقى فيها.
وقال بعض الممتحنين بنسائه: لا، بل يُزوّج، وكفى بالتزويج تعذيباً!
وفي هذه الأسطورة، يقول الشاعر:
رب ذئب اخذوهوتماروا في عقابهثم قالوا: زوجوهوذروه فـي عذابه
ومنها من كان بنت الموقف:
فقد خرج ابودلامة مع المهدي وبعض حاشيته في رحلة صيد، فعنّ لهم ظبي. رماه المهدي فاصابه، ورماه على بن سليمان، فاخطأه، واصاب الكلب الذي معهم، فضحك المهدي، وقال لأبي دلامة الشاعر: قل في هذا الذي رأيته، فقال:
قد رمى المهدي ظبياشك بالسهم فؤادهوعلى بن سليمانرمى كلبا فصـادهفهنيئا لهماكل امرء يأكل زاده
دعا احدهم الشيخ ناصيف اليازجي؛ لتناول الطعام على مائدة افرنجية، وقدمت له الشوكة والسكين، فقال:
وبأنملي ـ فرتيكة ـ أو شوكـــةأبداً تدب كأرجل السرطــــانأهوى بها فتكاد تسقط من يديلو لم اداركها بكفي الثانـــــيفكأنها وكأنني سنيورةتمشي على القبقاب بالفسطان
وذات مرة، زارالشيخ اليازجي، ابراهيم سركيس في منزله، فلما قدمت القهوة، قال ابراهيم سركيس، مباسطاً: كيف تشرب القهوة، والشاعر يقول فيها:
قهـوة البن حــرامقد نهى الناهون عنها
فقال الشيخ اليازجي:
كيف تدعوها حراماً
وأنا اشرب منها؟!
وكان ابن المعتز، مولعاً بجارية غاية في القبح والدمامة، فسأله بعض ندمائه: ماذا تحب في هذه الجارية؟!..
فأنشد، يقول:
قلبي وثاب إلى ذا وذاليس يرى شيئاً فيأباهيهيم بالحسن كما ينبغيويرحـم القبح فيهـواه
عندما انتهى ابوالعلاء صاعد من تأليف كتابه: "الفصوص"، كلف غلاماً له بأن يعبر بالكتاب نهر قرطبة. وحدث أن زلت قدم الغلام، فسقط هو والكتاب في الماء. والتقى ابو العلاء باحد الشعراء في حضرة الخليفة المنصور، الذي علق على تلك الحادثة ساخراً:
قد غاص في البحر كتاب الفصوص
وهكذا كل ثقيل يغوص
فضحك المنصور والحاضرون، مما اوحى إلى ابي العلاء بهذا البيت:
عاد إلى معدنـه انما
توجد في قعر البحار الفصوص
،...،...،...
واذ نعود من الماضي البعيد، والقريب.. بتلكم القطوف الثرية، فإلى الشعر الضاحك: ادعو، على الرغم من أن: "شر البلية مايضحك"!...