اصالة التعدد مدعاة للتفاضل والسياسة فن إدارة الإختلاف
يظل التساؤل قائما عن الغاية من خلق الله للإنسان، كلما جاءت أمة اثر أخرى، وبنفس السياق يظل التساؤل مشرئبا بعنقه عن مغزى التعدد والتنوع في الخلق وفي الكون، وفي كل ما يحيط الانسان من مشارق الأرض ومغاربها.
ان الإجابة تكمن في هذا الكون المحيط بنا، وبهذا الانسان نفسه، فهذا التعدد الكوني هو الذي جعل الكون والأرض بهذا الجمال المتنوع الخلاق: "فالخلاقية والجمال تنبع من التفاعل التعددي بين عناصر الكون ومكوناته وثمرة لذلك الامتزاج الحيوي بين النباتات المتضادة التي تتداخل مع بعضها مكونة ذلك الإنتاج العظيم. وإذا كانت المخلوقات الجامدة تتألف في الإبداع عندما تتوزع وتتعدد فان الانسان الذي يمتلك روحا حية وعقلا دافقا وفكرا شعوريا يرتكز في أساسه وتكوينه على التعدد والتنوع حتى يستطيع التكامل والتصاعد عبر التفاعل العقلي والروحي". ثم "ان العلة الغائية من خلق الانسان يمكن ان تنتفي مع انتفاء التعدد لأنه يعني انتفاء الحرية والاختيار، والقول بوحدة الوجود كما يقوله بعض الفلاسفة يعني سلب حرية الانسان عبر اندماجه القهري، واضمحلاله الجبري في منظومة واحدة غير متجزئة، ولهذا فإن مبدأ وحدة الوجود تعبير واضح عن تلك المحورية الذاتية يبحث دعاتها عن المبررات الفلسفية لإلغاء الآخرين ودمجهم في منظومتهم الذاتية المتمركزة". [1]
التعدد وتفاوت العقول
ولسنا هنا في صدد تناول مسألة وحدة الوجود التي يكثر حولها اللغط بين علماء وفلاسفة المسلمين والتي طحنت تحت صخرتي رحاها أرواح الكثيرين من دعاتها والمستشكلين عليها، لكن ما يعني موضوعنا هو الجانب التعددي والتنوعي في المخلوقات في مقابل الوحدة البسيطة الصمدية لله الخالق، والانسان المتعدد غير المتوحد هو من المخلوقات الذي يقع في دائرة السؤال والحساب والكتاب صاحب الإرادة والحرية والاختيار.
ولا شك ان فلسفة التنوع، وجوهر التعدد نابعان من تفاوت العقول البشرية التي مهما تعالت فهي قاصرة عن فهم كل مراد الله في هذا الكون، فضلا عن قصورها في الإلمام بكل ما جاء به كتاب الله الكريم، وهذا القصور والتفاوت في الفهم، أحد المظاهر الجلية والواضحة للتعدد: "فتفاوت العقول يقتضي بالبداهة تفاوت الآراء، فسنّة الله جرت في هذا الكون على التعددية:ومن كل شيء خلقنا زوجين(سورة الذاريات: 49) ولا يستثنى من ذلك الحاكم والمحكوم، فكل ما في الحياة يدل على التعددية.. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه وهو يعدهم لحياة لها قيمة.. يتركهم يدركون بقوة العزم والجهد والتفاعل والتجربة الغاية المنشودة من خلقهم ألا وهي الصعود بإنسانيتهم الى ذروة الكمال الميسور". [2] فالتركيبة التي خلق الله الانسان على صورتها تقتضي بطبيعتها الاختلاف: "إذ الانسان وكما هو معروف مركب من العقل والشهوة (الغرائز) وهذه الغرائز لها دور كبير في التحكم ببعض الناس ما لم يتمكنوا من تهذيبها وقهرها أي الانسان معرض لارتكاب الأخطاء بل هو كثير الأخطاء إلا من عصم الله تعالى، فمقتضى ارتكاب الانسان للخطأ اختلاف الآخرين معه في آرائه وتفاوت آرائه" [3]، وهذه الهدفية التي ينشدها الله في عباده، أي هدفية التكامل، هي جزء من رسالة الاسلام التي تتعامل بواقعية مع الانسان على ما هو عليه: "وخالق الانسان – تبارك وتعالى- يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شأنها ان تؤدي الى اختلاف في نظراتهم وأفكارهم ومواقفهم من كثير الأشياء، ولذلك فان الاسلام يتسع الى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الأمة، فيكفي ان تتفق الآراء، وتلتقي التصورات وتتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى والقواعد الأساسية، أما ما عداها من أمور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح نحو الأفضل والأمثل فلا ضير فيه على ان يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده, وقواعده وآدابه، وألاّ يؤثر على وحدة فكر الأمة ومواقفها من القضايا الأساسية الكبرى". [4]
المفهوم السياسي للتعدد
وعندما نمر على معاني ومفاهيم السياسة، نجد ان بعض الضليعين يعطون تفسيرات خاصة لمعنى السياسة تنسجم كليا مع طبيعة الاختلاف والتنوع في البشر، فهذا بيتر مادغويك (Peter Madgwick) الكاتب البريطاني والرئيس السابق لقسم السياسة والاقتصاد في معهد اوكسفورد يعرفها، بقوله: "السياسة هي الطريق الذي يسلكه المجتمع او المجموعة لإدارة الخلافات والنزاعات", ويقرر مادغويك: "ان الخلافات والنزاعات بين بني البشر هي جزء من تعريفنا وفهمنا لمعنى السياسة، فلا تعني السياسة إدارة الحكم فحسب, فالمدرسة على سبيل المثال يسيطر عليها الجانب التعليمي الأكاديمي، ولكن عندما يدب الخلاف بين الإداريين والكادر التعليمي, فان السياسة تدخل في صلب هذه المدرسة لحل النزاعات وإدارتها، فإدارة الخلاف داخل المدرسة ينسجم كليا مع تعريفنا للسياسة". [5]
هذا المعنى والمفهوم، يشير اليهما كاتبان بريطانيا آخران هما آلان رنويك وأيان سوينبورن (Alan Renwick&Ian Swinburn)، عند تناولهما لمظاهر الاختلاف والتغير والتنوع في الحياة ومفهوم السياسة، فعندهما ان: "الشيء الأكيد حول هذه الحياة هو التغير والاختلاف، ومن مظاهر ذلك هو التغير الحاصل من فصل لآخر، التغير الفسيولوجي في الانسان وتغير الاعمار، واعظم حقل للتغيير هو الحاصل في المجال الاجتماعي والاقتصادي الذي يؤثر على ملايين الناس".
ويقرران: "ان التغيير هو صفة ثابتة في عالم البشرية، وادارة التغيير نحو الاحسن لخدمة البشرية والانسانية عادة هو على علاقة بعقلانية الانسان نفسه، ومن ملامح الانسان هو الاختلاف حول ماذا ومتى وكيف يترجم هذا التغيير الى واقع فعلي وعملي، ومهما حاول الناس تجنب الاختلاف فإنهم سيختلفون، والاختلاف ليس فقط حول الأهداف، بل حول تطبيق الأهداف. وهنا يأتي دور السياسة لادارة هذا الاختلاف بين المجموعة الواحدة فيما يخص الاهداف او تطبيقها، وان عملية حل الاختلاف فيما اذا كان داخل البيت، او في المدرسة، او بين طبقات المجتمع، هذه العملية تسمى سياسة، فالسياسة هي ادارة الاختلاف نحو الأحسن". [6] ولذلك اشتهر في الادب السياسي العلاقة التلازمية بين السياسة والاختلاف، فأينما حصل الاختلاف من قبيل الاختلاف في وجهات النظر حلت السياسة لادارة هذا الاختلاف وصرفه عن التنازع العقيم.
ويوافق الباحث العراقي ومن مؤسسي المعهد العالمي للفكر الاسلامي في واشنطن الدكتور العلواني الكثيرين بان لعقل الانسان شأنا كبيرا في هذا التنوع والتعدد الذي نلحظه في ذاتية الانسان، فقد قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، الى جانب اختلاف الألسن، والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي الى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها: "وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فان اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وان إعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو ان البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهمسورة هود:118-119". [7]
الماهية جوهر التفاضل
ولما كان الاختلاف أمرا فطريا وهو من سنة الحياة: "فليس هناك من لا يختلف لان الله سبحانه وتعالى خلق الانسان بقدرات عقلية متباينة، لذا كان الاختلاف أمرا طبيعيا" [8]، وكذلك الخلاف المحمود غير المذموم، من هنا فان ابن أبي الربيع شهاب الدين احمد بن محمد، من رجال عهد المعتصم العباسي (833-842م) في كتابه (سلوك المالك في تدبير الممالك): "لا يذهب في الخلاف مذاهب الهوى والتلفيق، بل مذاهب الاختيار والروية والفكر، فيقول: والباري تعالى حيث وهب الاختيار والروية والفكر للبرية لم يكن ليهمل أمرها، وكان من الواجب في عدله ان ينهج لها نهجا تسلكه، وظاهر ان في الناس وعقولهم وقوى أنفسهم تفاضلا بينا". [9] واشار الماوردي ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب (ت450هـ/ 1058م) الى ذلك: "التفاضل في نفوس وعقول البشر - في قوله: ان الله جل اسمه ببليغ حكمته، وعدل قضائه جعل الناس أصنافا مختلفين، وأطوارا متباينين، ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين وبالتباين متفقين، فيتعاطفوا بالإيثار تابعا ومتبوعا، ويتساعدوا على التعاون آمرا ومأمورا". [10]
واذا كان التنوع في الكون أمرا حتميا وفطريا، ترى ما هو جوهر وفلسفة الاختلاف عند بني البشر، وكيف يحصل التفاضل بينهم مع ان الله خلقهم من نفس واحدة، بنص قوله تعالى: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون(سورة الأنعام:89) [11]
وان هذه السلسلة من البشرية ترجع في الخلقة لأب واحد هو آدم عليه السلام وأم واحدة هي حواء عليها السلام؟
يجيب الشيرازي (1347-1422هـ) على مثل هذا التساؤل، آخذا بنظر الاعتبار الجانب الفلسفي من علة الخلق والتفاضل في الكفاءات بين بني البشر، ويرجع العلة الغائية من التفاضل البشري الى أمرين منظورين:
أولا: لأنه جمال الكون، فالجمال إنما هو بالتنوع لا باللون الواحد، فالحديقة ذات الأزهار الحمراء او الصفراء او البيضاء او الزرقاء فقط لا ترضي الشعور الجمالي للإنسان بقدر ما ترضيه حديقة ذات أزهار مختلفة، وألوان متنوعة، وعطور مختلفة، فان الأولى لوحظ فيها التساوي، لكن لم يلحظ فيها الجمال، فان الجمال بالكبر والصغر، والألوان المختلفة والأحجام المتباينة، والروائح المتنوعة.
ثانيا: لان كل شيء – مما يُعبر عنه في لسان الفلسفة بـ (المهية) – يطلب الوجود بلسان الحال، ومن جود الفياض المطلق ان يفيض الوجود على كل مهية حقها، ومثل ذلك: أفراد يأتون الى ساقي ماء، وكل يطلب الماء، ولكن هذا إناؤه صغير، وذلك إناؤه كبير، وثالث إناؤه مربع، ورابع إناؤه مدور وخامس إناؤه مستطيل.. الى غير ذلك من الاختلافات, فالمهيات – بلسان الحال- تطلب من الله سبحانه وتعالى إفاضة الجود، والله يفيض الجود على الجميع لأنه الجواد الكريم كما ألمع إليه: أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها(سورة الرعد:17)، فالأودية تحتمل كل واحدة منها بقدرها من الماء النازل من السماء، وهكذا حال ماء الوجود المفاض على المهيات المختلفة التي هي مثل أودية الماء المختلفة.
من هنا فان الشيرازي يتساءل بصورة استنكارية: فهل من الصحيح عدم إعطاء كل ذي حق حقه؟ او عدم التنويع الموجب للجمال؟ [12] وبتعبير آخر وباستخدام مفهوم المخالفة المنطقي، نتساءل: أليس من الظلم عدم إعطاء كل ذي حق حقه؟ او التساوي المنفر للجمال؟ بالطبع ان العدالة تقتضي ان يأخذ كل مخلوق حقه، فالعدالة لا تقتضي التساوي دوما، والتساوي لا يعني العدالة دوما، فلا تلازم دائم مئة بالمئة بين العدالة والتساوي.
وتزخر الحياة ويمتلأ القران الكريم بالكثير من القصص والأمثال التي تشير الى مسألة الماهية المفاضة على كل مخلوق من مخلوقات الله، ومثل هذه النقطة هي مدار نزاع بين التيار الديني والتيار العلماني، حيث يطلب الأخير من المرأة مزاحمة الرجال في كل الأعمال دون الإقرار بالتفاوت القائم بين المرأة والرجل والاختلاف في ماهية كل موجود من الموجودات، وهذه الماهية هي التي تحول دون تسلم المرأة لبعض الأعمال في مجال الحكم والقضاء حسب النظرة الإسلامية. وفي رحلة النبي موسى عليه السلام (899-777 ق.م) الى مدين والتقائه بابنتي النبي شعيب عليه السلام الذي جاء بعد النبي يوسف المتوفى العام 1968 ق.هـ، دلالة واضحة الصورة على الإفاضة والماهية، فانهما وبما أفاض الله عليهما من الوجود غير قادرتين على مزاحمة الرجال لسقي أغنام أبيهم شعيب، كما ان رعاة الأغنام كانوا يمنعونهما، وقيل ان رعاة الأغنام كانوا قد سقوا أغنامهم ووضعوا حجرا كبيرا على فوهة البئر تعجز النسوة عن رفعه، فرفعها لهما موسى عليه السلام بما وهبه الله من قوة بدنية ونفسية، وسقى الغنم، فضلا عن الجانب النفسي والأخلاقي الذي يمنع هاتين المرأتين من مزاحمة الرجال: ولما توجّه تلقاء مدين قال عسى ربي ان يهديني سواء السبيل. ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولّى الى الظل فقال رب إني لما أنزلت الي من خير فقير(سورة القصص:22 الى 24).
الأنا منشأ الإختلاف
ان العقل السليم يحكم ابتداءاً دون الخوض في تلافيف المسألة من جانبها الفلسفي، ان التنوع غاية في الجمال والإبداع، فلو كان لإنسان ثوبان مختلفان في الشكل واللون والهيئة يتناوب على لبسهما بين حين واخر، فان سعادة هذا الانسان اكثر من سعادة انسان آخر يملك مائة ثوب وبشكل واحد ونمط واحد ولون واحد وهيئة واحدة، بل ربما تصاغرت او انعدمت النسبة في السعادة بين الاثنين، ونلمس مثل هذا في طبيعة المرأة التي تشعر بنشوة السعادة كلما استجد عندها ثوب جديد تلبسه في مناسبة جديدة، وكم من النساء من يرتدين في المناسبة الواحدة اكثر من ثوب، وما ذلك الا لسد رغبة نفسية في نشدان التنوع.
ما عبر عنها السيد الشيرازي بالمهية، عبّر عنها السيد روح الله الخميني (1902-1989م) بالأنية، إشارة الى "الأنا" والذات الإنسانية، فإليها أرجع الاختلاف: "فلو اجتمع الأنبياء جميعا في مكان واحد لما اختلفوا، لأنه لا يوجد أحد منهم يقول: (أنا) بل كل منهم يقول: (هو)، و(هو) واحد فلا معنى لأن يقع الاختلاف بينهم، بل يقع التنازع والاختلاف حينما تصير الأعمال للـ (أنا) وهي متعددة. وعلى كل حال، فان منشأ الاختلاف داخل الأمة الصالحة هو الأنا". [13]
وظاهر الأمر أن السيد الخميني تناول الجانب النفسي من الأنا من ذات الإنسان التي بسببها يختلف الناس، على ان الاختلاف يقع على نوعين: اختلاف مأمور به واختلاف منهي عنه، والمأمور به ما حسنت نتائجه وتسامت فضائله، والمنهي عنه ما ساءت نتائجه وسفلت بضاعته، ومن المؤكد ان النزعات النفسية ناهيك عن المعتقدات الدينية، مدعاة الى نشوء توجهات تميز إنسانا عن آخر وفق نزعاته النفسية ورغائبه، وهذا التميز يفضي الى حتمية التنوع والاختلاف والتعددية لدى البشر: "فالتعدد أمر متجذر في طبيعة الحياة البشرية والمجتمع الإنساني لا مفر منه" [14]، وحقائق (علم النفس والاجتماع) قائمة غالبا على التجارب التي لها قيمتها.. وهي واضحة لكل ذي عينين: "وعلم النفس يقسم نفسيات المجتمع الى اكثر من (300) ثلاثمائة قسم.. وعلم الاجتماع يؤكد هذا التقسيم.. أما في الواقع الخارجي فهو شاهد نراه ماثلا أمامنا, يؤكد التعددية النفسية". [15]
وفي تقديري ان "الأنا" غير متعلقة فقط بالنفس البشرية التي يجهد الانسان لصقلها وتهذيبها، فان للمدارك العقلية والعلمية، ولتجارب الحياة، وللبيئة المكانية والزمانية، علاقة بـ "الأنا" من جهة أخرى، فعبادة العالم غير عبادة غير العالم، فهما يشتركان من حيث العبادة وتهذيب النفس، لكن مراتب التهذيب لدى العالم أرقى بكثير من مراتب التهذيب لدى غير العالم، فغير العالم يجهد بعبادته وتهذيب نفسه لأنه يجد نفسه مجبرا على ذلك وهو يؤدي واجبا، في حين ان العالم إنما يعبد الله لا من باب الوجوب فحسب وإنما من أبواب أخرى غير متوفرة لدى غير العالم، مثل العبادة لان العالم يرى ان الله أهل للعبادة، او ان عبادته لله من باب الشكر على ما انعم الله عليه من نعمة الهداية والعلم وملامسة الحق والعمل به، إذ يرى وجوب شكر الله على نعمائه وآلائه، وقد ورد عن الامام علي عليه السلام (30 بعد عام الفيل – 40هـ): "ان قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار". يقول الشيخ محمد عبده في شرحه للنهج: (فالتجار يطلبون العوض، والعبيد أنهم دلوا للخوف، والأحرار لأنهم عرفوا حقا عليهم فأدوه وتلك شيمة الأحرار)، وقد ورد عن الامام علي عليه السلام: "ما عبدت الله خوفا من ناره ولا طمعا في جنته ولكن وجدته أهلا للعبادة فعبدته". [16]
التفاضل قائم بين الأنبياء
نعم ان عصمة الأنبياء ومعرفتهم الله حق المعرفة تقتضي عدم اختلافهم فيما بينهم، ولكن التفاضل يبقى قائما بينهم من حيث تعدد الرسالات ومتعلق نزول الرسالة إليهم، وملكة وقدرة كل نبي, والتمايز من حيث النبوة والإمامة، والنبوة والرسالة، والتفاضل في الكتب المنزلة، ولولا هذا التفاضل لما احتاج الله لان يبعث 124 ألف نبي الى البشرية، فقد: "ورد عن السيد عبد العظيم الحسني (ت 254هـ) قال: كتبت الى أبي جعفر الثاني (الامام محمد بن علي الجواد "195 –220") عليه السلام اسأله عن ذي الكفل* ما اسمه؟ وهل كان من المرسلين؟ فكتب صلوات الله وسلامه عليه: بعث الله تعالى جل ذكره مائة الف نبي وأربعة وعشرين ألف نبيا، المرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وان ذا الكفل منهم صلوات الله عليهم". [17]
ومن التمايز ان يبعث الله أنبياء الى أهليهم وآخرين الى عشيرتهم وقسم ثالث الى أقوامهم، وان تكون هناك نبوات موضعية زمانية ومكانية، ونبوات عامة كرسالات السماء اليهودية والمسيحية وخاتمتها رسالة الاسلام, فحكمة الباري اقتضت التفضيل والتنوع في مراتب بني البشر. بل وحتى الأنبياء عليهم السلام فضل الله بعضهم على بعض، قال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض(سورة الاسراء: 55)، تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض(سورة البقرة: 253). يقول القرطبي (ت 671 هـ) في جامعه: "فالانبياء يتفاضلون" [18]، والتفضيل قائم بما منح من الفضل وأعطى من الوسائل وقد اشار ابن عباس عبد الله (3ق.هـ -68هـ) الى هذا فقال: "إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا: بم يابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين(سورة الانبياء:29)، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم:إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر(سورة الفتح:2)، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى:وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم(سورة ابراهيم:4) وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلناك إلا كافة للناس(سورة سبأ:28), فأرسله إلى الجن والإنس. ذكره ابو محمد الدارمي (عبد الله بن عبد الرحمن "181-255") في مسنده، وقال ابو هريرة (عبد الرحمن بن صخر الدوسي، ت57 هـ): خير بني آدم نوح وابراهيم وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهم اولو العزم من الرسل، وهذا النص من ابن عباس وابي هريرة في التعيين, ومعلوم ان من ارسل افضل ممن لم يرسل، فان من ارسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة الى ما يلقاه الرسل من تكذيب اممهم وقتلهم اياهم وهذا مما لا خفاء فيه". [19]
ان الثبات والصمدية من صفات الله تعالى، اما التغير والتعدد والاختلاف فهي من صفات الانسان وتكوينه، وفلسفة الحياة وجوهرها يقتضي التعدد والتنوع في كل شيء، والا استحالت الحياة وانعدمت نضارتها، ولما امكن تذوقها، لان التذوق اساسا نابع من عملية مناظرة ومقابلة بين انواع عدة من جنس واحد او مجموعة اجناس، فلا يعرف الحسن الا بمعرفة القبح، ولا النهار الا بمعرفة الليل.