

هل للنثر قصيدة؟!
اعتذار لا بد منه:
أبدأ مقالتي بالاعتذار مقدما لكثير من أصدقائي الأعزاء الذين يكتبون قصيدة النثر، فأبين أن وجهة النظر التي تعرضها هذه المقالة ليست انتقاصا من جهودهم، و لا تقليلا من قيمة نصوصهم الرائعة في كثير من الأحيان، و لكن لضرورة أراها ملحة، حتى تتمكن الأجيال الصاعدة من القراء من التفريق بين الشعر و النثر، و حتى لا يختلط عليها الأمر، و لا تستطيع التمييز بين النوعين، خاصة قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر لما بينهما من تشابه ظاهري، لمن لا يمتلك الأذن الموسيقية التي تميز الشعر من النثر، فيصبح النوعان سيّان لدى غالبية القراء.
و لا أعتقد أن تسمية هذه النصوص الأدبية النثرية الراقية بمسمياتها الحقيقية ينقص شيئا من قيمتها، وليكن لكتاب هذا اللون الأدبي أسوة حسنة بمحمد الماغوط، أحد أبرز رواد هذا الفن عندما قال: (أنا أكتب نصوصا، فليسمها النقاد ما يشاؤون، و لن أغضب إذا قيل لي لست بشاعر، و إنما كاتب نصوص)
تمهيد:
قد يبدو السؤال الذي يمثله العنوان مناقضا لنفسه للوهلة الأولى، حيث أن الشعر شعر و النثر نثر، و لا يلتقيان أبدا من حيث الشكل. فالكتابة في جوهرها تنقسم إلى نوعين رئيسين: هما الشعر و النثر، أما الشعر فهو الكلام الموزون المقفى في تعريفه الأولي، و إن كان هذاالتعريف قاصرا، و لا يشتمل على جمال الصورة، و صدق العاطفة، و عمق الفكرة و أصالتها و جدتها، لكنه يظل صحيحا من الناحية الشكلية. و أما النثر فهو ما سوى ذلك من الكتابة المرسلة، و هو أيضا يتفرع إلى فرعين رئيسيين: النثر العلمي و هو الكتابة التي تدون بها العلوم و المعارف لنقل المعلومات، دون تركيز على جمال الصياغة الفنية و الأسلوبية، و إنما تركز على نقل المعلومة سليمة خالية من الأخطاء مؤدية للمعنى المراد فقط. أما النثر الأدبي فهو الذي يهتم بالصياغة الأدبية شكلا و مضمونا، و هو يندرج تحت فنون متعددة منها: المسرحية و الخطبة و المقالة و الخاطرة و القصة الطويلة (الرواية) و القصة القصيرة و الأقصوصة و القصة القصيرة جدا، و يعتمد على براعة الكاتب و جودة أسلوبه في عرض نصه ضمن الفن الأدبي النثري الذي اختاره وعاء له.
و لست أدري أي ضير يلحق بالكتابة الإبداعية النثرية، التي تقطر رقة و عذوبة و صدق عاطفة و جمال تصوير، إن سميت مقالة أو خاطرة أو نصا نثريا؟ و ما الذي يعيبها أو ينتقص من قيمتها، إن نسبت إلى جنسها و هو النثر الأدبي، و ما الذي تكسبه هذه النصوص من التسمية المتناقضة (قصيدة النثر) فهل للنثر قصيدة؟
إن الوزن الشعري و الموسيقى العروضية هي أول شروط القصيدة، و بدون الوزن لا يمكن أن يسمى الكلام شعرا. و من الذي قال إن النثر ليس فيه من الجمال ما يوازي الشعر، و يتفوق عليه؟ ألم يقدمه رسول الله – صلى الله عليه و سلم- على الشعر عندما قال: (إن من البيان لسحرا، و إن من الشعر لحكمة)
فقد نسب سحر القول للبيان الذي يقصد به النثر، و نسب الحكمة للشعر، لما فيه من إيجاز العبارة، و اشتمالها على العبرة و الموعظة، و سهولة الحفظ.
و هل ما نشأنا عليه، و تربت عليه أذواقنا، و تدربنا على أن ننسج على منواله في موضوعاتنا الإنشائية الأولى أيام فتوتنا، من تقليد لرومانسية المنفلوطي في (عبراته و نظراته)، و رقة جبران خليل جبران و تدفق العاطفة في كتبه: مثل (الأجنحة المتكسرة) و (دمعة و ابتسامة) و غير ذلك من روائعه، يقل في روعته و جماله عن الشعر؟
لكن أصحابه لم ينسبوه للشعر، بل سموه باسمه الحقيقي نثرا أدبيا جميلا، فما عابه ذلك و لا انتقص من مكانته، وسنعرض فيما يلي لنماذج من هذا النثر الأدبي الذي ما ادعى قائلوه أنه شعر و إن كان أجمل من الشعر:
فهذا مقتبس من نص لجبران خليل جبران بعنوان(أغنية) من مجموعته (أغاني) ضمن (المجموعة الكاملة). انصت إليه يقول:
(في أعماق نفسي أغنية، لا ترتضي الألفاظ ثوبا، أغنية تقطن حبة قلبي، فلا تريد أن تسيل مع الحبرعلى الورق، و تحيط بعواطفي كغلاف شفاف، فليست تنسكب على لساني كالرضاب.
كيف أتنهدها و أنا أخاف عليها من دقائق الأثير؟ و لمن أنشدها، و قد تصدرت سكنى بيت نفسي، فأخشى عليها من خشونة الآذان؟)
ألا نجرب أن نعيد كتابتها على طريقة قصيدة النثر، لنرى ما الذي ستضيفه إليها هذه الإطلالة الجديدة:
في أعماق نفسيأغنيةلا ترتضي الألفاظ ثوباأغنيةتقطن حبة قلبيفلاتريد أن تسيلمع الحبر على الورقو تحيط بعواطفيكغلاف شفاففليست تنسكب على لسانيكالرضابكيف أتنهدهاو أنا أخاف عليهامن دقائق الأثير؟و لمن أنشدها؟و قد تصدرت سكنى بيت نفسيفأخشى عليهامن خشونة الآذان
هل أصبحت الآن قصيدة، و ازدادت جمالا عما كانت عليه و هي نص نثري بديع؟
لست أدري، و أترك تقدير ذلك لكل قارئ ليقارن بين الحالتين.
ولنتأمل نصا آخر لجبران من كتابه(دمعة وابتسامة) حيث يقول:
(أنا لا أبدل أحزان قلبي بأفراح الناس، و لا أرضى أن تنقلب الدموع التي تستدرها الكآبة من جوارحي و تصير ضحكا، أتمنى أن تبقى حياتي دمعة و ابتسامة، دمعة تطهر قلبي، و تفهمني أسرار الحياة و غوامضها، و ابتسامة تدنيني من أبناء بجدتي، و تكون رمز تمجيدي الآلهة، دمعة أشارك بها منسحقي القلب، و ابتسامة تكون عنوان فرحي بوجودي.)
لنعاود صياغتها صياغة شعرية نثرية، ثم لنتأمل أي النصين أجمل ظاهرا و باطنا:
أنا لا أبدلأحزان قلبيبأفراح الناسو لا أرضىأن تنقلب الدموعالتي تستدرها الكآبة من جوارحيو تصير ضحكاأتمنىأن تبقى حياتيدمعة و ابتسامةدمعة تطهر قلبيو تفهمني أسرار الحياةو غوامضهاو ابتسامةتدنيني من أبناء بجدتيو تكونرمز تمجيدي الآلهةدمعةأشارك بها منسحقي القلبو ابتسامةتكون عنوان فرحيبوجودي
لقد غدت الآن قصيدة نثر من أبدع طراز، فهل تغير شيء في مضمونها؟
و لنتأمل مقتطفا من نص نثري آخر للمنفلوطي بعنوان (الذكرى ) من كتابه (العبرات) حيث يقول:
(وقف الأمير أمام قصر الحمراء، فرأى سماء تطاول السماء، و طودا يناطح الجوزاء، و هضبة تشرف على الهضاب، و سحابة تمر فوق السحاب، و جبلا تَحسِرُ عن قمته العيون، و تضل في جوانبه الظنون، و حِصنا تتقاصر عنه الأيام، و تتهافت من حوله السنون و الأعوام، ثم فإذا ملك كبير، و جنة و حرير، و قباب تفضي إليها النجوم بالأسرار، و أبراج تنزلق عن سطوحها يد الأقدار، و صحون مفروشة بألوان الحصباء، كأنها الرياض الزهراء، و جدران صقيلة ملساء، تصف ما بين يديها من الأشياء، كما تصف المرآة وجه الحسناء، و كأن كل جدارفيها لجة متلاطمة الأمواج، يحبسها عن الجريان لوح من زجاج)
لنجرب كتابتها على طريقة قصيدة النثر، و نلاحظ ما يفعله السجع إلى جانب جمال التصوير و رقيق الألفاظ، و هل سيضفي عليها حلة جديدة، أم أن حلتها القديمة هي الأبهى و الأبقى:
وقف الأمير أمام قصر الحمراء
و لك أن تكمل النظم الجديد للنص على الهيئة الجديدة، ثم تتأمله في الحالتين و تقرر أيهما أجمل و أنسب.
أنا لا أجد في تبديل الاسم من نص نثري إلى قصيدة نثر، و لا في بعثرة النص المجتمع إلى بعضه، إلى كلمات متفرقة أي إضافة جديدة اكتسبها، و ماعابه أنه نص نثري راقٍ لا ينتسب للشعر، فما الضرورة لانتحال الأسماء.
ولو قلبنا الوضع فعرضنا قصيدة نثر كما هي منشورة، ثم جربنا كتابتها على انها نص نثري مترابط، و قارنا بين الحالتين، و مثال ذلك هذا النص للشاعر
و الإعلامي اللبناني زاهي وهبي: و عنوانه ( تتبرج لأجلي ) من ديوانه الذي يحمل نفس العنوان، ص 73 و مابعدها الصادر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) عام 2007 حيث يقول:
غداأمضي بسلامتاركا لكم أشيائي الخاصةربطة العنق مثلاقارورة العطر و الأقداحأمنيات صغيرة لم تتحققهل أحدكميذكرني بالخيريحرسني من الظلمة العمياءيكتب كلمة طيبة؟هل أحدكم يرش الأرض قمحايسقي حديقتي المهجورةيُعَشِّبُ روحي من آثامهاهل أحدكميُمَلِّحُ خبزا للمارة الغرباءيصادق شباكا أو شجرةيحكي منضدة أو أريكةهل عين تدمعهل أحدكم يذكرني؟بائع العلكة مثلاو النورية الفاتنةأينعت دمعتهالما قرأت كفي و مضتهل أحدكميضبط ساعته، ينتبه لغيابيالعابرون كل مساءفتاة الحانةدرج البيتصبية الحيالذين ضحكوا من وراء ظهريلأنحني أكثرغداأمضي بسلامهل امرأةتتبرج لأجليتتعرى عند قبرييلامس خصرها الرخامتترك ظلايروي عظاميهل امرأةتراني في نومهاجدولاأو نافورةو تنهض من ساعتهالتغتسل؟
سنعاود كتابة النص السابق دونما تقطيع لفظي، و نفترض أنه نص نثري متصل فنقول: ( غدا أمضي بسلام، تاركا لكم أشيائي الخاصة: ربطة العنق مثلا، قارورة العطر و الأقداح، أمنيات صغيرة لم تتحقق.
هل أحدكم يذكرني بالخير؟ يحرسني من الظلمة العمياء، يكتب كلمة طيبة؟ هل أحدكم يرش الأرض قمحا؟ يسقي حديقتي المهجورة؟ يعشب روحي من آثامها؟
هل أحدكم يملح خبزا للمارة الغرباء؟ يصادق شباكا أو شجرة؟ يحكي منضدة أو أريكة؟ هل تدمع عين؟ هل أحدكم يذكرني؟
بائع العلكة مثلا، و النورية الفاتنة أينعت دمعتها، لما قرأت كفي و مضت.
هل أحدكم يضبط ساعته، ينتبه لغيابي. العابرون كل مساء، فتاة الحانة، درج البيت، صبية الحي، الذين ضحكوا من وراء ظهري، لأنحني أكثر.
غدا أمضي بسلام، هل امرأة تتبرج لأجلي؟ تتعرى عند قبري، يلامس خصرها الرخام، تترك ظلا يروي عظامي؟ هل امرأة تراني في نومها جدولا أو نافورة، و تنهض من ساعتها لتغتسل؟)
أليس هذا الترابط و التواصل بين الجمل في نص متكامل، يجعلها أكثر تماسكا و قربا و وحدة موضوع؟ فما الذي قدمه للنص تقطيعه على هيئة كلمات متباعدة، و تسميته بغير اسمه (قصيدة ).
لعل هنالك دافعا خفيا وراء تسمية هذه النصوص النثرية بالقصائد، و هو أن عيون أصحابها مفتوحة على الترجمة للغات الأجنبية أكثرمن تطلعها لقارئها العربي، و هي تتطلع لأن يترجم هذا الشعر، و عندها يختلط الحابل بالنابل، و لا يمكن التمييز في النصوص المترجمة بين ما هو شعري في أصله و ما هو نثري، إذ إنه سيترجم جميعا لنصوص نثرية، و عندها يستوي الأعمى و البصير، و يخسر الشعر موسيقاه، التي هي مزيته الأولى عند الترجمة، فالشعر أكثر الفنون عنادا في محليته، و هو يفقد روحه التي هي موسيقاه، عند نقله للغة أخرى، أما النثر الذي لم يكن في حسبانه الوزن و الموسيقى منذ البداية، فإنه لا يخسر شيئا بالترجمة، و قد يبدو بفكرته و لغته و صوره متفوقا على الشعر الحقيقي.
قصيدة النثر تجني على قصيدة التفعيلة:
ترتبط قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر بالمرجعية الشعرية الأوروبية، و تتشابهان في مظهرهما لأول وهلة، غير أن قصيدة التفعيلة منتظمة الموسيقى، متحررة جزئيا من القافية، أما قصيدة النثر فمتحررة من الموسيقى و من القافية معا.
إن ما تزخر به المجلات الأدبية، و الأبواب الثقافية على صفحات الجرائد، مما يصنف على أنه قصيدة نثر، عندما يكتب و يعرض على القارئ بنفس طريقة شعر التفعيلة، الذي هو شعر موزون على بحر من بحور الشعر العربي، لا يختلف عن الشعر العمودي، إلا في عدم تساوي التفعيلات في كل بيت، حيث يختلف عدد تفعيلاته، و تتنوع القوافي في القصيدة الواحدة، فلا تلتزم بقافية واحد. و لا يستطيع نظم شعر التفعيلة إلا شاعر موهوب يتقن نظم الشعر العمودي، و قد ابتدأ به بالضرورة و زاوج في نظمه للشعر بين اللونين.
أما قصيدة النثر فلا علاقة لكاتبها بالوزن الشعري على الإطلاق، و هي نثر تام لا صلة بينها و بين موسيقى الشعر التي هي روحه و وجدانه، و كاتبها لا يتقن نظم الشعر مهما علت ثقافته، و تعددت مواهبه و دراساته و اطلاعه. إذ الشعر موهبة فطرية، يمكن صقلها و تطويرها بالقراءة و التمرين و حفظ الأشعار، لكنها لا تُصنع مطلقا، إذا لم تولد مع المرء عند ولادته. فليست ملكة الشعر علما مكتسبا، و تنظيم أسطر على هيئة قصيدة التفعيلة لا يصنع منها قصيدة، و إن لحقها بعض السجع أحيانا على هيئة قافية في نهايات الأسطر، فإن ذلك لا يجعل منها شعرا. ولو طلب من كاتب قصيدة النثر أن ينظم بيتا واحدا من الشعر العمودي أو شعر التفعيلة فإنه لا يستطيع ذلك، إلا القلة من الشعراء الذين يعمدون لكتابة قصيدة النثر مجاراة للموجة السائدة، و هم في الأصل من شعراء القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة.
و لا يميز النوعين من بعضهما إلا شاعر أو متذوق للشعر، أو صاحب أذن شاعرية تحس بالوزن الموسيقي، متى يستقيم و متى ينكسر منذ نعومة إظفارها، و إن كانت لا تحسن تقويم البيت المكسور، لكنها تدركه فورا عند سماعه، و هؤلاء قلة من الموهوبين.
أما سائر القراء و هم غالبية الناس، فلا تميز آذانهم موسيقى الشعر، فيجدون من الكلام الرقيق، و الصور البديعة و الأخيلة المُحَلِّقَة، ما يضعهم في حيرة بين النوعين، و يظنون تبعا لترتيب أسطر القصيدة، أن قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر لون واحد، بحسب ما يبدو للقارئ في ظاهرهما، و هذه الحيرة تسهم في تردي الذائقة الشعرية لدى القراء.
فلو ظل شعر التفعيلة وحده يقدم للناشئة منذ بداية تعلقهم بالقراءات الشعرية، على أنه الشعر الحديث إلى جانب الشعر العمودي التقليدي، لتدربوا شيئا فشيئا على تذوق موسيقاه، و وقرت في أسماعهم تفعيلاته، و اقتربوا من تقبله و التعود على سماعه و تمييز إيقاعاته.
أما اختلاط قصيدة النثر به، و هي التي تفوقه كثرة في العرض، لأن صناعتها أسهل، لتمكن أي مثقف أدبي صاحب ذخيرة لغوية من إقامتها، و عندما يعرضان معا أمام جمهور لا يتمتع بحس شعري و آذان موسيقية، بل يعتمد في تقييمه على مظهر ترتيب السطور، و جمال العبارة و الصورة، فإن ذلك مما يساهم في التشويش على هذا القارئ، و المساهمة في حيرته و إرباكه، و عدم قدرته على التمييز بين اللونين، و بدل أن يتربى على تذوق الشعر الحديث بالتدريج، فإن ذلك يوقعه في بلبلة، و يصرف أذنه عن التدرب على وقع الوزن الشعري، و تختلط المفاهيم لدى أجيال القراء جيلا بعد جيل، و في ذلك جناية على شعر التفعيلة، الذي هو أكثر شعرنا الحديث، و هو باب التجديد الذي فتحه شعراؤنا المعاصرون منذ منتصف القرن الماضي، لأنه يضيع في زحمة ما يسمى تجاوزا قصيدة النثر، و ماهي بقصيدة، إن هي إلا مقالة أدبية لها من القيمة بحسب ما تشتمل عليه من جودة شكل و مضمون، و لا يحق لها أن تنتسب لغير جنسها.
قصائد عمودية تكتب على نمط شعر التفعيلة:
و مما يسهم في هذه البلبلة لدى المتلقي، لجوء شعراء ينظمون القصيدة العمودية، لكتابة قصائدهم على نمط قصيدة التفعيلة، في ترتيب أسطرها و بعثرة تفعيلاتها، فإذا تمعنتها وجدتها قصائد عمودية كاملة، فما الحكمة من توزيعها على هيئة شعر التفعيلة، و مثال ذلك هذه القصيدة للشاعر الدكتور محمود شلبي، التي عنوانها (عبير المجد) من ديوانه (منازل القمر الآس) في طبعته الأولى الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، و هي في الصفحات 178 و ما بعدها، و قد عُرضت على النحو التالي:
يا أيها الوطن المزروعفي جسدينبضًاو إيقاعه في القلبو الكتبِالنهر شريانك الجاريو موجتهبوح التوايخفي ترنيمة الحقبِو الضفتان صدى الماضيو حاضرهو الضفتانجناحا جحفلٍ لجبِللسيف حدانإن تضرب به فتكاو حَدُّهُ العزمفي الجُلى و في الطلبِالشمس فوق علا الأردنقد سكبتنشيدهافي صخور الأرض بالذهبِإلى فلسطين يهفو القلبمنصدعامن فورة الشوقبل من فورة الغضبِو نصدق الحجر الناريَّ صولتهو نلثم الخنجر الداميعلى القُببِنقيم للقدس جسر الروحمرتديًادم الشهادةمن بوابة اللهبِنبني لعمان بيتافي جوانحناإن شئت كان من الأحداقو الهُدُبِأو شئت كان الدم الزاكيمنارتهو قوسهمن عبير المجدو القُضُبِ
هذه الأبيات الشعرية التي تمددت على مساحة واحدٍ و أربعين سطرا من الورق، أليست من البحر البسيط الذي وزنه (مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن) ؟و الأجدر و الأجدى و الأوفر للورق أن تكتب على النحو التالي:
يا أيها الوطن المزروع في جســدينبضا و إيقاعه في القلب و الكتبِالنهر شــــريانك الجاري و موجتهبـــوح التواريخ في ترنيمة الحقبِوالضفتان صدى الماضي وحاضرهو الضـــــــفتان جناحا جحفلٍ لجبِللســـيف حدان إن تضرب به فتكاو جدد العزم في الجُلَّى و في الطلبِالشمس فوق علا الأردن قد سكبتنشيدها في صخور الأرض بالذهبإلى فلسطين يهفو القلب منصدعامن فورة الشوق بل من فورة الغضبو نصدق الحجر الناريَّ صـولتهو نلثم الخنجــــــر الدامي على القُببِنقيم للقدس جسر الروح مرتديًادم الشــــــــــــــهادة من بوابة اللهبنبني لعمان بيتا من جــــوانحناإن شـــئت كان من الأحداق و الهدبأو شئت كان الدم الزاكي منارتهو قوســــــه من عبير المجد والقُضُبِ
أرأيت إلى الأربعين بيتا و نيِّفًا، و قد عادت إلى أصلها و رونقها؟ عشرة أبيات من الشعر الرصين على البحر البسيط، ما زادها التفتيت إلا تشتتا، و إلا إسرافا في تبديد الورق، فما الحكمة من وراء ذلك؟