

محمود درويش في "كزهر اللوز أو أبعد"
السؤال الذي يثيره قارئ ديوان محمود درويش الجديد "كزهر اللوز أو أبعد" (2005) هو: ما الجديد في أشعار درويش حديثة الكتابة والنشر؟ وهل اختلفت هذه عن أشعار الشاعر السابقة؟
ربما يتذكر قارئو المقابلات التي أجريت مع الشاعر بعض آرائه، حين يقدم على نشر مجموعة جديدة، وآراءه عن بذرة العمل الجديد- أي السلالة- في الأشعار السابقة. مرة قال درويش أنه يتردد في نشر أي جديد إذا كان هذا يشبه أشعاره السابقة، وأنه لا يرضى عنه إلا إذا شعر أنه لا يشبهه. طبعا علينا ألا ننسى أنه قال أيضا أن الشاعر يكتب أحيانا قصائد تشبه قصائد سابقة له، وأن الجديد لا يكون دائما مختلفا نوعيا، فقد يكون تراكما لنتاجه السابق. وهو لا ينكر، حتى لو اختلف الجديد اختلافا جذريا، أن ثمة سطراً ما، من أشعاره السابقة، كان بذرة للعمل الجديد. هنا تعيدنا الذاكرة إلى ذلك اللقاء الذي أجراه معه قبل سنوات مجموعة من الشعراء ونشر في مجلة الشعراء في ربيع وصيف العام 1999، في العددين الرابع والخامس. قال الشاعر لغسان زقطان والمرحوم حسين البرغوثي وحسن خضر وزكريا محمد والمتوكل طه:
"إذا قام الشاعر بقراءة "سلالية" لسلالات شعره، فإنه سيجد أن كل مجموعة لها بذرة في المجموعة السابقة، فأنا أعرف الآن من أين طلع ديوان "سرير الغريبة"، لقد طلع من قصيدة في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" وهي قصيدة "ياسمين في ليل تموز"، إذا نظرت في هذه القصيدة ستجد وكأنها جزء من "سرير الغريبة"، أي أن هناك دائما بذرة مرمية في بعض شعري وتتطور إلى ديوان لاحق، ونبت في ديوان جديد، أي يوجد هذا التسلسل، ولكن أعترف لك أنني لم أقصد هذا، وأنا من أقل الناس قراءة لشعري."
ولا ينكر درويش في المقابلة نفسها أن هذه البذرة قد تكون في دواوين سابقة نشرت قبل الديوان ما قبل الأخير للديوان الجديد. "هناك تراكم وليست هناك قطيعة". يقول درويش. سؤال السلالة هذا يلح على قارئ أشعار درويش إلحاحاً واضحا، فعلى الرغم من أن القراءة الأولى للديوان تقول للقارئ أن درويش هنا يبدو مختلفا عن درويش في "حالة حصار" (2002) ودرويش في "لا تعتذر عما فعلت" (2004) إلى حد كبير، إلا أن القراءة الثانية لـ(كزهر اللوز أو أبعد" (2005) تؤكد الاختلاف عن "حالة حصار" وتنفي الاختلاف الكبير عن "لا تعتذر عما فعلت"، وحين يبحث المرء عن بذرة المجموعة هذه "كزهر اللوز أو أبعد" فإنه يجدها مرمية في مجموعات الشاعر السابقة أكثرها، لا على صعيد البناء وحسب، وإنما على صعيد اللغة أيضا، وربما أحيانا الموضوع. ولا يعني هذا أن الديوان الجديد ليس سوى تراكم، تماما كما لا يعني أنه منبت انبتاتا كليا عن أشعار درويش السابقة.
وعلى المرء، وهو يقرأ جديد الشاعر، ألا يغض الطرف عن قضية مهمة هي أن الجديد لم يبتعد، زمنيا، كثيراً عن سابقه، فلم ينقض سوى عام وبضعة أشهر على نشر السابق حين نشر الشاعر اللاحق، وأظن أن السنتين الأخيرتين لم تشهدا المختلف نوعياً على الصعيدين الوطني والشخصي للشاعر، حتى تختلف الكتابة كلياً. هل يعني هذا أن الحالة الشعرية لدرويش وهو يكتب المجموعتين واحدة؟ ما يعني أن على المرء ألا يتوقع المختلف كليا في قصائدها!
على المرء أن ينظر في قصائد الأولى "لا تعتذر عما فعلت" والثانية "كزهر اللوز أو أبعد"، من حيث البناء والصورة الشعرية واللغة والموضوعات، ومن ثم يمكن أن يُكوِّن رأيا مقبولا، رأيا قد يكون موضوعيا لا يظلم الشعر والشاعر. وربما يتذكر المرء المقالة السريعة للناقد صبحي حديدي التي أعادت الأيام نشرها عن القدس العربي (الثلاثاء 6/9/2005) وما قاله فيها، حين أعاد الذاكرة إلى المجموعة "ورد أقل" (1986) وميل الشاعر إلى المقطوعات الشعرية القصيرة. وربما يتذكر المرء ما أوردته شخصيا عن "لا تعتذر عما فعلت"، ونشرته، ابتداءً، في الأيام (كانون أول 2003)، وأعدت نشره في الأسوار العكية (2005)، إذ ربطت بين قصائد المجموعة وقصائد "ورد أقل". وبعض قصائد "كزهر اللوز أو أبعد" موضوعاً وبناءً تشكل استمراراً لـ"لا تعتذر عما فعلت". القصائد الأولى تشبه القصائد الأولى من الديوان السابق. لكن الشاعر هنا يلجأ إلى تقسيم شكلي في توزيعها (أنت، هو، أنا، هي)، وتكون العلاقة بين المرسل والمرسل إليه مشابهة لتلك في الديوان السابق. يخاطب الشاعر ذاته، ويتحدث عن ذاته عبر الضمير الثالث، ثم يكتب عبر الضمير الأول، وفي الختام يتحدث عن علاقته بالمرأة/ النساء. هناك، في "لا تعتذر عما فعلت" نقرأ قصائد أيضا عن علاقته بأناه، علاقة ابن الستين بابن العشرين "أأنت يا ضيفي أنا"، وهناك يكتب عن زياراته للمدن، عبر ضمير الأنا، وهناك أيضا يكتب عنه وعنها.
القصيدة التي أريد التوقف أمامها وأنا أثير سؤال السلالة هي قصيدة "طباق". ما هي بذرة هذه القصيدة؟
ربما يرفض درويش هنا قبول فكرة البذرة التي أوحت له بكتابة القصيدة. وربما يكون معه الحق في ذلك. فالقصيدة في رثاء المفكر إدوارد سعيد الذي لم يمت مرتين، ليرثيه الشاعر أيضا مرتين، تكون القصيدة الثانية متكئة على الأولى. إن القصيدة قصيدة مناسبة مات إدوارد سعيد الذي عرفه الشاعر منذ ثلاثين عاما، فحزن لموته، ولأن العلاقة بينهما كانت متينة، فقد رثاه، وموضوع الرثاء موضوع رئيس في الشعر العربي منذ أبي ذؤيب الهذلي والخنساء حتى فدوى طوقان ومحمود درويش. لقد رثى الأخير فلسطينيين كثرا من أبي علي إياد حتى ماجد أبي شرار مروراً بعز الدين القلق.
إنّ بناء القصيدة هنا يحيلنا إلى قصائد سابقة لدرويش. وهنا بالضبط يمكن القول أنها تبدو نبتا طبيعيا لقصائد درويش. وربما يتذكر قراء أشعار الشاعر قصيدة "كان ما سوف يكون" التي كتبها في رثاء الشاعر راشد حسين. وربما تكون التجربة المتشابهة التي مر بها درويش هي ما جعلت بناء القصيدة واحداً في رثاء راشد ورثاء إدوارد، مع اختلاف تصور الشاعر لكل منهما، واختلاف الحوار في النصين، فمرجعية راشد تتلاقى ومرجعية إدوارد في جانب: المنفى، وتختلف في جوانب: طبيعة الحياة. ودرويش الذي رثى راشداً في العام 1977، هو درويش في العام 2005، وهو غيره أيضا: شعرياً وفكرياً ونظرةً إلى الأشياء.
لقد التقى درويش بكلا الرجلين: راشد وإدوارد في نيويورك، ولم يكن لقاؤه براشد الأول، فقد عرفه في فلسطين، ولكن لقاءه بإدوارد كان هناك، وهناك التقى بهما في الشارع الخامس. تبدأ قصيدة درويش في رثاء الأول هكذا:
"في الشارع الخامس حيّاني، بكى، مال على السورالزجاجي، ولا صفصاف في نيويورك"فيما تبدأ قصيدته في رثاء إدوارد على النحو التالي:"نيويورك/ نوفمبر/ الشارع الخامسالشمس صحن من المعدن المتطاير"و:"هناك على باب هاوية كهربائيةبعلو السماء، التقيت بإدواردقبل ثلاثين عاماً
ليس استحضار المكان فقط هو الشيء الوحيد المتشابه في القصيدتين. هناك الحوار وهناك اللغة وهناك بناء القصيدة أيضا. هذا كله يجعلنا، ونحن نقرأ طباق، نتذكر "كان ما سوف يكون".
ومن المؤكد أن المرء، وهو يقرأ "كزهر اللوز أو أبعد"، ويثير سؤال السلالة، لا يتوقف فقط أمام هذا، فهناك عبارات كثيرة غدت عبارات درويشية، وربما نكررها نحن لفرط ما قرأناها في أشعاره، ونجدها تتكرر أيضا في أشعاره الأخيرة، وربما يحتاج المرء إلى دراسة إحصائية لملاحظة جمل وعبارات ومفردات برزت هنا وكانت برزت من قبل في قصائد درويش. وعلى سبيل المثال حين يقرأ المرء الأسطر التالية في الديوان الأخير:
" لو كان لي أن أعيد البداية لاخترت
لاسمي حروفا أقل
حروفا أخف على أذن الأجنبية" (ص154).
فإنه سرعان ما يتذكر قصيدة "إذا كان لي أن أعيد البداية" من ديوان "ورد أقل". العبارة نفسها وإن كان هناك اختلاف، فهناك يريد أنا المتكلم، لو كان له أن يعيد البداية، أن يختار ما اختار: ورد السياج، خلافا لما هو عليه الأمر هنا، إذ سيختار اسما أقل حروفاً.
– 2-
يبدو درويش شاعراً يثقف نفسه باستمرار، وتنعكس قراءاته على نصوصه. ويتلمس قارئ الديوان هذا بوضوح، ليس فقط من خلال النصوص التي أشار درويش إلى أصحابها، كما هو في تصدير الديوان " أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم " ( أبو حيان التوحيدي " الامتاع والمؤانسة " الليلة الخامسة والعشرون " وهي عبارة لفتت أنظار النقاد إليها ( صبحي حديدي وحسن خضر )، وإنما من خلال النصوص نفسها.
ستحضر النصوص القرآنية في بعض القصائد القصيرة، مثل قصيدة " الآن .. في المنفى " حضوراً جزئياً، من خلال عبارة تحيل إلى قصة، وستحضر وسيحضر أيضاً في هذه القصائد الشعر العربي القديم. وإذا كان الحضور الأبرز في " لا تعتذر عما فعلت " هو لأبي تمام ( من الشعراء العرب ) وللمتنبي أيضاً، فإن الحضور الأبرز في الديوان الجديد هو لطرفة بن العبد وللأعشى. وسيكون لمعلقة الأول:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
ولقصيدة الثاني:
ودع هريرة أن الركب مرتحل فهل تطيق وداعاً أيها الرجل
وبخاصة البيت:
غراء فرعاء مصقول جوانبها تمشي الهوينى، كما يمشي الوشي الوجل
سيكون لهذين الشاعرين ولبعض أبياتهما حضور لافت. لا يعني هذا الكلام أن المرء لا يعثر على حضور لشعراء آخرين، مثل أبي العلاء المعري الذي كان له حضور في " جدارية " وفي " لا تعتذر عما فعلت "، ويبدو أن بيتيه المشهورين:
" صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلاّ من هذه الأجساد "
يلحان على الشاعر منذ كتب، في سبعينيات القرن العشرين، قصيدته في رثاء عز الدين القلق، وهما بيتان لهما حضور لافت في قصيدته " منفى 3: كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهلي "، حضور لا يقل عن حضور بيت طرفة المذكور، وبيت الأعشى أيضاً الذي حضر في غير قصيدة. وربما ذهب المرء إلى أبعد مما سبق، وقد لا يكون مُصيباً، حين يربط بين رحلة الشاعر وصاحبه في قصيدة " منفى؟: ضباب كثيف على الجسر " وبين رحلة امرئ القيس وصاحبه، حين ذهبا إلى ملك الروم لطلب النجدة.
في قصيدة " الآن .. في المنفى "، وتحديداً حين يقول الشاعر:" قل للحياة، كما يليق بشاعر متمرس:سيرى ببطء كالإناث الواثقات بسحرهنوكيدهن. لكل واحدة نداءٌ ما خفي:هيت لكْ / ما أجملك " ( ص18 )
تذكيرٌ بسورة يوسف في القرآن الكريم، بقصة زليخة امرأة العزيز ويوسف. إن كلمتي " كيدهن " تحيلنا إلى كيد امرأة العزيز والنسوة الأخريات، وكذلك عبارة " هيت لك ". لا يتوقف المرء هنا أمام السطور، وإنما تنفتح الذاكرة على رموز تاريخية دينية، على قصة غدت أمثولة قد تحدث في كل زمان ومكان، وقد تكون حدثت معنا نحن أيضاً. الشاعر المتمرس هنا قد يكون مر بالتجربة نفسها التي مر بها يوسف، والقارئ أيضاً قد يكون مر بالتجربة ذاتها.
وستحضر نصوص قرآنية في هذا الديوان، ما يعني أن درويش يواصل اتكاءه على رموز قرآنية بدا حضورها يبرز منذ " ورد اقل " (1986) حضوراً ضعيفاً، ليتعزز منذ " لماذا تركت الحصان وحيدا "(1995). سنتذكر ( يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) ونحن نقرأ:
" ثم أسأل نفسي: إلى أين تمشين
أيتها المطمئنة مثل النعامة " (ص110)
وفي الصفحة نفسها سنقرأ عبارات من العهد القديم " إلهي إلهي لماذا تخليت عني ؟"، سنتذكر ( والليل إذا سجا ) ونحن نقرأ " سجا الليل، واكتمل الليل .. " (ص124).
وإذا كان قارئ " منفى2: ضباب كثيف على الجسر " يتذكر أبا فراس وقصائد سابقة لدرويش " من روميات أبي فراس "(1995) حين يقرأ:
" وقلت له: منذ كم سنة نستحثُّ
الحمامة: طيري إلى سدرة المنتهى،
تحت شباكنا، يا حمامة طيري وطيري "(ص133)
وامرأ القيس وقوله: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه " حين يقرأ: " إذا كان دربك هذا / طويلا "(ص134) وأبا تمام وقوله " لا أنت أنت ولا الديار ديار " حين يقرأ: " فلا أنت أنت كما كنت قبل قليل / ولا الكائنات هي الذكريات "(ص136) – وكان أبو تمام حاضراً حضوراً لافتاً في " لا تعتذر عما فعلت " -، وعلي بن الجهم وقوله " عيون المها بين الرصافة والجسر " حين يقرأ: " سأنكر أني أقلد قيلولة الشاعر / الجاهلي الطويلة بين عيون المها "(138)، والمعري – ويذكره الشاعر بالاسم خلافاً للسابقين – حين يقول درويش: " سآخذ سطر المعري ثم أعدّ له: جسدي خرقة من تراب، فيا خائط / الكون خطني "(ص140 )، وابن حزم وكتاب طوق الحمامة حين يقول درويش: " سأجمع ما بعثرته الرياح من الغزل / القرطبي، وأكمل طوق الحمامة "(ص141)، والمتنبي وقوله:
" نحن أدرى وقد سألنا بنجد أطويل طريقنا أم يطول "
حين يقول درويش: " ما هو الزمن الآن؟ جسر يطول / ويقصر ... فجر يطول ويمكر. ما الزمن الآن؟ ( ص143 )، إذا كان قارئ " منفى 2 " يتذكر هؤلاء، فإن قارئ منفى 3 " يتذكر طرفة بن العبد والأعشى، وعليه أيضاً أن يتذكر رواية " أرض قديمة جديدة " لـ ( ثيودور هرتسل ) أو ما حدث على أرض فلسطين منذ 1882، ومنذ كتب ( هرتسل ) روايته التي أضاف إلى عنوانها الرئيس عنواناً فرعياً ثانوياً مهما يحضر في قصيدة درويش ويشكل مفتاحاً مهماً وأساسياً من مفاتيح فهم القصيدة، هو: " إذا اردتم فإنها ليست خرافة " أو بالألمانية، كما ورد في الطبعة الأصلية " (Wenn ihr wollt, ist es kein Marchen ).
وقبل تبيان التناص الخارجي في هذه القصيدة لا بدّ من توضيح ما يلي: إن فكرة القصيدة أو ما يريد درويش قوله فيها كان قاله من قبل في قصائد كثيرة سابقة، ولكن الجديد فيها هو أسلوبيتها. وربما تذكر المرء قصائد " لا تعتذر عما فعلت " بخاصة الأولى التي يأتي فيها الشاعر على حياته الأولى في فلسطين قبل أن يغادرها في العام 1970، بل وعلى حياته فيها في العام 1948 وقبله، وعلى زيارته لفلسطين بعد العام 1996. في تلك القصائد نجد الشاعر يكتب عن ثلاثة أزمنة: زمن الهجرة إلى لبنان 1948، وزمن الإقامة في فلسطين ما بين 1948 و 1970، وزمن العودة بعد غياب ستة وعشرين عاماً، أي في العام 1996. وربما تذكر المرء أيضاً، وهو يقرأ " منفى 3 " بعض قصائد " لماذا تركت الحصان وحيداً " بخاصة التي يأتي فيها على الشاحنات التي تُرحّل القرويين إلى لبنان، إلى ما وراء الحدود. إن فكرة البلاد وفقدانها والغياب عنها والعودة إليها وحياة المنفى فكرة محورية هنا وفي " لا تعتذر عما فعلت "، ولكن الاختلاف ما بين قصائد " لا تعتذر .. " وهذه القصيدة يتمثل بالدرجة الأولى في الأسلوبية، ودرويش يقر بأن على الشاعر ألا يكرر نفسه وأن يجدد أسلوبيته. وربما تعد هذه القصيدة من عيون قصائد شعر المقاومة التي لا تتكرر فيها عبارات: سأقاوم وقاوم، والعبارات التي رأى درويش أن لا يبقى الشاعر أسـيراً لها، حين ردّ على أولئك الذين قالوا عنه إنه تخلى عن كتابة شعر المقاومة. ( الكرمل، 85، 2005 ) هنا في هذه القصيدة " منفى 3 " يدحض درويش الرواية الصهيونية، وكما ذكرت فإن " أرض قديمة – جديدة " و " إذا أردتم فإنها ليست خرافة " تشكل مفتاحاً أساسياً لفهم " منفى 3 ", هنا لا يكتب درويش عن " جندي يحلم بالزنابق البيضاء " أو عن ريتا " شتاء ريتا الطويل "، وإن كان ثمة ما يذكر بها، بخاصة عن الحلمين المتقاطعين، وإنما يكتب عن ( سيمون ) الذي حضر في " الكتابة على ضوء بندقية "، هذا الذي لا يريد عرباً يفكرون فيما كان أو فيما سيكون. إنه الصوت الثالث في القصيدة، الصوت الذي يخاطب الصوت الأول: الذي كنته / الماضي والصوت الثاني الذي يفكر فيما سيكون: الذي عليه الشاعر بعد زيارة المكان في العام 1996، بما يلي:
" قولا وداعا لما كانقولا وداعا لما سيكونوداعاً لقافية النونفي اسم المثنىوفي بلد الأرجوان " ( ص165 )
إنه صوت سائق الجرافة التي عدّلت عفوية هذا المكان، وقَصَّتْ جدائل زيتوننا لتناسب قصة شعر الجنود، وتفتح شِعْباً ( طريقاً ) لبغل نبي قديم. صوت الواقعي مروّض الأسطورة ( رواية هرتسل: إذا أردتم فإنها ليست خرافة ).
منفى 3 والشعر العربي القديم:
عنوان القصيدة بالتمام هو " منفى (3): كوشم يد في معلقة الشاعر الجاهلي "، والشاعر الجاهلي صاحب المعلقة الذي ترد عبارة " كوشم اليد " في معلقته هو: طرفة بن العبد، ومطلع معلقته:
لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهرة اليد
وقد شرح الزوزني هذا البيت على النحو التالي:
" يقول: لهذه المرأة أطلال ديار بالموضع الذي يخالط أرضه حجارةٌ وحصى من ثهمد – موضع – فتلمع تلك الأطلال لمعان بقايا الوشم في ظاهر الكف، شبه لمعان آثار ديارها ووضوحها بلمعان آثار الوشم في ظاهر الكف " ( الزوزني، ص61 ).
يبدأ درويش قصيدته على النحو التالي:
" أنا هو، يمشي أمامي وأتبعهلا أقول له: ههنا، ههناكان شيء بسيط لنا:حجر أخضر. شجرْ شارعقمر يافع. واقع لم يعد واقعا.هو يمشي أماميوأمشي على ظله تابعا ...كلما أسرع ارتفع الظل فوق التلالوغطى صنوبرة في الجنوبوصفصافة في الشمال،ألم نفترق؟ قلت، قال: بلى.لك مني رجوع الخيال إلى الواقعيولي منك تفاحة الجاذبية "قلت: إلى أين تأخذني؟قال: صوب البداية، حيث ولدتَهنا، أنت واسمك " ( ص153، 154 ).
وليس الحوار هنا بين شخصين مختلفين. إنه حوار بين درويش قبل 1970، ودرويش بعد 1996. ودرويش يدرك أنه الآن يتشكل من ذوات عديدة، فدرويش ما قبل 1970 هو غير درويش ما بين 1970 و 1996، هو غير درويش ما بعد 1996 ولايحتاج القارئ إلى كثير ذكاء حتى يكتشف هذا. إن درويش ما قبل 1970 الذي عرف فلسطين جيدا، وكانت غير ما غدت عليه بعد هذا التاريخ، هو من يقود درويش 1996 الذي عاد، وكان افترق عن درويش 1970 الذي قاد الغائب صوب البداية: القرية والأم والحقل والزيتونة حيث ولد هناك واسمه، هذا الاسم الذي تبدو حروفه ثقيلة على أذن الأجنبية، ولو كان لمحمود أن يختار اسماً آخر لاختار اسماً أقل حروفاً على أذنها.
عاد الشاعر إلى المكان الذي ما زالت آثاره موجودة، على الرغم من التغيرات التي طرأت بفعل الجرافة الصهيونية واستبدال الأشجار بأخرى غريبة. مثله في ذلك مثل الشاعر الجاهلي الذي عاد إلى المكان وما زالت آثاره.
" لم أكن أحفظ الكلمات لأحمي المكان
من الانتقال إلى اسم غريب يسيجّه
الأكاليبتوس. واللافتات تقول لنا:
لم تكونوا هنا " (ص158).
وإذا كان مطلع معلقة طرفة يشكل مفتاحاً آخر لفهم القصيدة، فإنها لا تخلو من أبيات شعرية لشعراء آخرين جاهليين وعباسيين. في مقطع آخر يقول:
أنا هو، يمشي عليّ، وأسأله:
هل تذكرت شيئاً هنا؟
خفف الوطء عند التذكر،
فالأرض حبلى بنا. ( ص 156 )
إنّ هذه الأسطر ما هي إلا إعادة كتابة لقول المعري الوارد ذكره آنفا. ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد. وإذا كان الإنسان من تراب ويعود إلى تراب فإنه حين يمشي على الأرض يمشي على نفسه " يمشي عليّ ". والمشي الحذر يحيلنا إلى الأعشى وودّع هريرة. إلى الفراق الذي لا يطيقه الرجل، الفراق الذي ترك أثراً كبيراً على درويش.
ولئن كان درويش يرى أنه ليس من الضروري أن يطابق المرء بين المرأة والأرض، مع أنه هو الذي وحد، في بعض قصائده بينهما: " أنت عندي أم الوطن أم أنتما توأمان "، فإنه في بعض قصائد " كزهر اللوز .. " يكتب تارة عن المرأة كونها امرأة ليس أكثر ولا يرى فيها رمزاً، إلا أنه في قصائد أخرى يعود إلى ما كانه سابقاً – أعني أنه يوحد بينهما ويرى في الأرض أماً. ( في قصيدة منفى 1: نهار الثلاثاء والجو صاف " يقول: أخي أنت يا قاتلي، / يا مهندس دربي على هذه الأرض ... / أمي وأمك، فارم سلاحك " (ص108).
وفي مكان آخر من القصيدة يقول:
" أمشي الهوينى على نفسي ويتبعني
ظلي وأتبعه، لا شيء يرجعني
لا شيء يرجعه "
ولقد افترق درويش عن درويش ( كأنني واحد مني يودعني / مستعجلاً غده: لا تنظر أحدا / لا تنتظرني، ولكن لا أودعه ) (ص161)، وهنا نتذكر الأعشى وبيتيه الواردين. وهما بيتان كان لهما أيضاً حضور في قصيدة " منفى 1 "، بخاصة حين يقول درويش:
لو أستطيع الحديث إلى امرأةفي الطريق لقلت: خصوصيتي لاتثير انتباها: تكلّس بعض الشرايينفي القدمين، ولا شيء أكثر، فأمشيالهوينى معي مثل مشي السحابة" لا هي ريثٌ .. ولا عجل " (ص108)
– 3-
في الكلمة التي ألقاها محمود درويش في حفل التوقيع على كتاب " كزهر اللوز أو أبعد " في رام الله ( انظر الكرمل ع 85/ العام 2005 ) أتى على قضايا شعرية مهمة تبرز في الأسطر التالية المقتبسة:
" أعلم أنني سأتهم، مرة أخرى، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يعرفها العصابيون بمعيارين؛ الأول: انطلاق الأنا على محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح على الخارج. والثاني: إقصاء، الشعر الموزون عن جنة الحداثة. فلا حداثة خارج قصيدة النثر " (ص4).
" ليس صحيحاً أنه ليس من حق الشاعر الفلسطيني أن يجلس على تلة ويتأمل الغروب، وأن يصغي إلى نداء الجسد أو الناي البعيد، إلاّ إذا ماتت روحه وروح المكان في روحه " ... وإن ( الفلسطيني )، في المقام الأول، كائن بشري يحب الحياة وينخطف بزهرة اللوز، ويشعر بالقشعريرة من مطر الخريف الأول ... " (ص5).
و
" ولكن عليهم ( الشعراء ) ألا ينسوا واجبهم تجاه مهنتهم، وألا ينسوا أن الشعر لا يعرف، أساساً، في ما يقوله، بل بنوعية القول المختلف عن العادي، وألا ينسوا أن الشعر متعة، وصنعة، وجمال " (ص5).
ويفهم من هذه العبارات أن درويش ما زال يكتب الشعر الموزون، وأنه ما زال يكتب أيضاً الشعر في موضوعات خاض فيها الشعراء من قبل، موضوعات ينفتح فيها على الخارج، خلافاً لشعراء الحداثة الذين ينغلقون على ذواتهم ولا ينفتحون على الخارج، وأنه فوق هذا وذاك يدرك أن الشعر مهنة. إنه صنعة أيضاً.
وإذا ما عدنا بذاكرتنا إلى تاريخ الشعر العربي عرفنا أن ما قاله درويش كان متحققاً في الشعر العربي منذ امرئ القيس مروراً بأبي تمام والشعر العربي في العصر الوسيط: الأيوبي والمملوكي والعثماني، ما يعني أن المرء حين يبحث عن إجابة لسؤال السلالة في أشعار درويش الأخيرة، بخاصة " لا تعتذر عما فعلت " _3/2004) و " كزهر اللوز أو أبعد "(2005) يجدها متحققة. وربما وجب التوقف، ابتداءً، أمام عبارة أبي حيان التي صدر بها درويش ديوانه الأخير:
" أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم " (ص11).
وربما قرأ المرء في " كزهر اللوز .. " قصائد تبدو صورتها نظماً كأنه نثر، لعدم خلوها من الوزن، مع أنها في خصائصها اللغوية تقترب من النثر. ودرويش الذي غلب على شعره الطابع الغنائي، منذ بداياته، لم تخل مجموعاته الشعرية من قصائد تقترب من النثر، وهذا ما يبدو واضحاً في " أحبك أو لا أحبك "(1971) وفي " سرير الغريبة "(1999)، ويتعزز هنا. والقصائد التي تتحقق فيها هذه الصفة في أشعار درويش ليست إذن منبتة الجذور عن الأدب العربي. وليس أبو حيان هو الأديب الوحيد الذي قال هذا، فهناك نقاد عرب قدامى لم يفرقوا بين الشعر والنثر على أساس الوزن والقافية فقط، فالشاعرية أكثر من الوزن والقافية، وهناك شعر موزون مقفى ليس فيه من الشعر شيء إلا هاتين السمتين، وهو الشعر التعليمي. والسؤال الذي يثار هنا: هل أراد درويش أن يقول إنه يكتب هنا كلاماً حسناً، بغض النظر عن اقتراب بعض القصائد من النثر رغم أنها موزونة؟
لم يكتب درويش على صفحة الغلاف إن كتابه شعر، وحين اختار مقطعاً منه ليزين به صفحة الغلاف الأخيرة أدرج كلمة " من الكتاب " تحتها، ولم يكتب من " الديوان " أو من المجموعة الشعرية. والكلمة الوحيدة التي تحدد جنس " كزهر اللوز أو أبعد " على أنه شعر هي كلمة ( Poems ) الإنجليزية التي ظهرت في الصفحات الداخلية التي تعرف بالكتاب (ص6). ومن المؤكد أن العنوان وحده لا يكفي لتحديد جنس كتاب درويش، تماماً كما أن اسم الشاعر وحده لا يكفي لأن يقول لنا إننا سنقرأ شعراً وذلك لما يلي:
حقاً إن العنوان هذا عنوان شاعري، ولكن هناك عناوين أخرى للشاعر شاعرية ولكن محتواها نصوص نثرية على قدر من الشاعرية أبرزها كتابه النثري " وداعاً أيتها الحرب .. وداعاً أيها السلم "(1974)، تماماً كما أن هناك عناوين لمجموعات شعرية لدرويش تخلو من الشعرية مثل " لماذا تركت الحصان وحيداً "(1995) و " لا تعتذر عما فعلت "(2003/2004 ). وهذا اجتهاد شخصي.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فنحن نعرف أن درويش لم يقتصر فيما كتب عن كتابة الشعر. لقد كتب الشعر والنثر والمقال السياسي أيضاً، وقد يذهب تفكير المتلقي، حين يرى كتاباً لدرويش لم يحدد عنوانٌ فرعيٌ أخر جنسَه، إلى أنه قد يقرأ، تحت العنوان " كزهر اللوز " شعراً آخر أو نثراً. وقد يعترض معترض إن الشاعرية واضحة في العنوان من خلال أداة التشبيه، لأن التشبيه خاصية شعرية. ولكني أرى أن هذه الخاصية الشعرية التي قد نجدها في النثر، وهو ما لاحظناه في قول أبي حيان، لا تكفي.
وإذا ما أمعن المرء النظر في لغة قصائد درويش هذه، وقارنها بلغة الشعر العربي القديم، فإنه سيجد وشائج كثيرة بينها: الاستعارة والتشبيه والمجاز وضروب البديع المختلفة، من سجع وجناس وطباق. إن هذا دليل آخر على صلة أشعار درويش بالشعر العربي القديم يبدو واضحاً وربما لا يحتاج المرء إلى أدلة وبراهين لإثباته.
سآتي هنا على جوانب أخرى لإظهار صلة قصائد درويش بالشعر العربي القديم، ولكني سأتوقف، ابتداءً، أمام ما قاله عن انقطاع شعر شعراء الحداثة مع المتلقين، خلافاً لقصائده هو، قصائده التي ما زال جمهور الشعر يتقبلها ولا يشعر بغربة عنها، علماً بأن درويش، كما نعرف، وكما يقول هو، لا يخضع دائماً لرغبة الجمهور، ولا يلبيها، وأنه يعمل على تغيير الذائقة لدى الجمهور، من خلال قراءة قصائد جديدة تختلف عن تلك التي ألفها الجمهور واطمأن إليها، لأن درويش يريد أيضاً ألا يكرر نفسه، ولأنه يريد أن يتطور وأن يطور في الوقت نفسه جمهوره الشعري.
يدرك درويش أن النهوض بالذائقة الشعرية لا ينبغي أن يتم بالانقطاع عما ألفه الجمهور فجأة، ولذلك يلجأ إلى كتابة قصائد لها صلة بالشعر العربي القديم الذي ألفه الجمهور، وفيها أيضاً، في الوقت نفسه، قدر من التجديد، وهكذا فإن هذا الجمهور الذي يلمس الجديد، وقد ينفر منه ولا يستسيغه كلياً، لا ينقطع عن أشعار درويش الجديدة، لأنها ما زالت، على الرغم من خروجها عن مألوف الشعر العربي، مرتبطة، إلى حد ما، به – أي بالشعر، وأن قصائده هي نبت للشعر القديم رغم اختلافها عنه. وهذا ما يمس سؤال السلالة في الصميم، وهكذا يحافظ درويش، خلافاً لشعراء الحداثة، على صلته بجمهوره. وهكذا تكون الأزمة أزمة شعراء لا أزمة شعر. ( الكرمل 85، ص4).
وأنا أكتب هذا الكلام ربما جدر أن أشير إلى مقولة ( هانز روبرت ياوس ) عن أفق التوقع، وإلى إدراك درويش لها ووعيها وعياً جيداً. حين نذهب إلى أمسية شعرية أو حين نقرأ قصيدة شعرية، فإننا نحكم عليها أنها شعر أو لا شعر، انطلاقاً من فهمنا للشعر وقراءاتنا السابقة له. ولما كان أكثر شعراء الحداثة يكتبون قصائد مغايرة لتلك التي ألفناها وعرفناها، فإننا حين نصغي إليهم، أو حين نقرأ أشعارهم، لا نشعر أننا نقرأ شعراً أو نصغي إلى شعر. وربما كرر بعضنا عبارة: إذا كان هذا شعراً، فإن ما قالته العرب باطل. وهذا ما لا تقوله حين تقرأ أشعار درويش أو حين تصغي إليه يقرأها، ذلك أن هناك صلة ما، بذرة ما من الشعر القديم ما زالت موجودة فيها. وهذا ما سأبرزه الآن في جانبين:
الموضوع والصنعة:
إن اقتصار أكثر أدباء فلسطين على الكتابة في الموضوع الوطني الفلسطيني لفت أنظار الدارسين، ما جعلهم يعدون هذا مأخذاً على الأدب الفلسطيني. وقد تنبه هؤلاء الأدباء إلى هذا وحاولوا التجديد في الموضوعات وإن كان قدرهم مرتبطاً بقضيتهم، فإن بعضهم جرّب أن يجد هامشاً، لا لفك عرى هذا الارتباط، وإنما لإبقائه، مع محاولة الخوض في موضوعات أخرى مثل الحب والموت، وهي موضوعات ذات حضور في الشعر العربي القديم. وما دمنا نكتب عن درويش، فإنه هو، الذي كتب في الحب في بداية حياته، كما في ديوانه الأول " عصافير بلا أجنحة " (1960)، ما عاد يكتب في هذا الموضوع منفصلاً عن السياسة، وهكذا فحين تغزل، بعد ذلك، في المرأة اليهودية، تغزل غزلاً غير منفصل عما يحيط به: الحرب. وهكذا لم تبتعد أشعاره الغزلية هذه عن الشعر السياسي والمقاوم الذي غلب على أكثر مجموعاته.
وربما ساعد درويش في الخوض في موضوعات جديدة ما مرّ به هو شخصياً من تجارب، مثل تجربة الموت التي برزت في " جدارية " (2000)، وما شهدته القضية الفلسطينية من تغير تمثل في اتفاق ( أوسلو ) (1994)، حين هدأت الجبهة ست سنوات، وهنا وجد الشاعر هامشاً ليكتب قصائد غزلية تختلف عن قصائده في ريتا وشولميت، قصائد غزلية تأتي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما بدا في " سرير الغريبة "(1999).
في " لا تعتذر عما فعلت " و " كزهر اللوز أو أبعد " يعود درويش ليكتب قصائد في المرأة، ويكتب قصائد في موضوعات أخرى جديدة مثل الطبيعة والفصول الأربعة والكواكب، يكتب عن زهر اللوز وعن الخريف والشتاء والربيع والشمس في لحظات غيابها. طبعاً لا يعني هذا أن الطبيعة كانت غائبة في أشعاره. لقد كانت حاضرة حضوراً لافتاً، منذ " أوراق الزيتون "(1964)، ولكن حضورها كان في القصيدة جزئياً، بحيث لم تشكل الموضوع الرئيس – أعني أنه كان يستحضر الطبيعة وهو يكتب في الموضوع الوطني، ولم يكن يستحضرها ليكتب القصيدة كلها فيها، كما يفعل الآن في " كزهر اللوز " إذ يخصص القصيدة كلها، ابتداءً من عنوانها، مروراً بأسطرها كلها، حتى نهايتها، للطبيعة. وهو ما يبرز في " برتقالية " و " لوصف زهر اللوز " و " أحب الخريف وظل المعاني " و " أما الربيع " ... الخ. وهو يفعل ذلك بقصد، لأنه أخذ يدرك أن الفلسطيني كائن بشري.
وهذه الموضوعات ليست جديدة في الشعر العالمي وفي الشعر العربي، فلقد خاض فيها الشعراء من قبل. ونحن حين نقرأ مثلاً " وصف الغيوم " في " لا تعتذر عما فعلت " نتذكر مثلاً وصف أبي تمام للغيمة " ديمة سمحة القياد سكوب "، وسنتذكر ونحن نقرأ ما كتبه الشاعر عن الربيع قصيدة:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
بل وسنتذكر ونحن نقرأ " لوصف زهر اللوز " مقامة السيوطي: " الرياحين " ... الخ.
إن تجديد درويش في الكتابة في الموضوعات يبدو تجديداً في أشعاره هو، لأنه ظل لسنوات طويلة أسير الموضوع الوطني، وهذه الموضوعات الجديدة مطروقة في الشعر العربي القديم، وإن كان درويش فيها لا يقلد الآخرين.
ولربما ذهبنا ونحن نكتب في هذا الموضوع إلى ما هو أبعد من ذلك. فحتى قصائد درويش في ريتا وتغزله فيها في ظل الحرب، حتى هذه القصائد ليست جديدة كلياً في الشعر العربي، إذ سرعان ما يتذكر المرء شاعراً مسلماً آخر من قيسارية، خاض في أثناء الحروب الصليبية في موضوع الغزل، وكتب قصائد يتغزل فيها بالصليبيات، وكان في خريف العمر، إنه ابن القيسراني الذي قال:
إذا ما زرت مارية فما سعدى وما ريّا
لها وجه مسيحي ترى الميت به حيّا
هنا أنتقل إلى الصنعة في أشعار درويش الأخيرة، وهو يُنظّر لها، لأنه يرى أن الشعر ليس مجرد تعبير عن عواطف. إنه مهنة وصنعة.
ويلحظ المرء، عدا الجناس والطباق، أن درويش في ديوانيه الأخيرين، يكتب عن قصد قصائد تخلو من الأفعال. وقد نظّر ذات لقاء معه لهذا، وقال إنه أراد أن يختبر نفسه في هذا الجانب، والقصيدتان هما " هي جملة اسمية " من " لا تعتذر عما فعلت " و " فراغ فسيح " من " كزهر اللوز أو أبعد ".
ومثل هذا اللون من الكتابة عرفه الشعر العربي في العصر الوسيط، بل وعرف أكثر منه. وحين يطالع المرء كتاباً خاض فيه صاحبه في الأشكال الشعرية المستحدثة زمن العثمانيين يعرف أن تصنّع درويش لم يأت من فراغ.
هنا يمكن أن نسترشد بكتاب " مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني " لمؤلفه بكري شيخ أمين، وهنا في هذا الكتاب تقرأ عن " التاريخ الشعري " و " الألغاز والأحاجي " و " التشجير " و " القوافي المشتركة الملونة " و الطرد والعكس " و " محبوك الطرفين " و " ما لا يستحيل بالانعكاس " ... الخ.
كتب الشاعر العربي القديم:
مودته تدوم لكل هول
وهل كل مودته تدوم
ليثبت لنفسه أنه قادر على أن يكتب بيتاً يقرأ معكوساً بالطريقة نفسها، وأراد درويش أن يختبر نفسه فيكتب قصيدة لا يوجد فيها أي فعل، وفعل ذلك. ولن أخوض هنا، فيما هو أبعد من ذلك، أو في رأيي في الموضوع، لأنني أردت فقط أن أبحث عن الصلة بين أشعار درويش والشعر العربي القديم، ليس أكثر، ولعلني أكون أنجزت ذلك.