

ليلى الأطرش ونساء على المفارق
(نساء على المفارق)(2009) هو آخر ما أصدرت الكاتبة ليلى الأطرش، وهي فلسطينية متزوجة من أردني، وتقيم الآن في عمان، وربما لا يروق لها السطر الأخير هذا، فهي تفضل أن تكون كاتبة عربية، وربما لا يؤرقها كثيراً البعد الإقليمي، علماً بأنها خاضت ذات نهار، في مقال لها نشرته على موقعها، في سؤال الهوية. وربما ما يروق لها أكثر مما سبق سؤالُ الجنس، أعني الكتابة النسوية والكتابة الذكورية، وهي تشعر مع جنسها وتتعاطف معه، شاءت ذلك أم أبت، أقرت بذلك أم أنكرته، وقد تلمستُ هذا في رواياتها وفي كتابها هذا الأخير، فهناك غير عبارة تفصح عن دفاع الكاتبة عن المرأة، والعنوان (نساء على المفارق) مخصص للمرأة بالدرجة الأولى، والمتن يعزز هذا ويقول إن همّ ليلى الأساس هو الكتابة عن نساء التقت بهن أو سمعت عنهن أو مرت بهن مروراً عابراً، فتركت حكاياتهن أثراً فيها، ولعل العبارة الأخيرة هي الأدق.
والنساء اللاتي تكتب عنهن ليلى لسن فلسطينيات أو أردنيات وحسب، إنهن عربيات وأوروبيات وأفريقيات رأتهن في رحلاتها العديدة التي امتدت سنوات طويلات، رحلاتها الأدبية والصحافية، فالكاتبة كانت إعلامية، وهي أديبة، وقد سافرت لتغطية نشاط ما، بحكم عملها، وسافرت أيضاً لكونها أديبة، لتشارك في معرض كتاب أو لتتفرغ، لمدة معينة، لكتابة نص ما.
هل كتاب ليلى هذا كتاب عن النساء اللاتي التقت بهن فقط أم أنه أكثر من ذلك؟ هل يمكن أن يعد أيضاً في جانب منه أشبه بسيرة ذاتية لها، وإن مختصرة ومبعثرة؟ هل يعد أيضاً سيرة للمدن التي زارتها، وهي كثيرة، فأغنت نصها، وهي تكتب عن النساء، فكتبت عن المدن: عن فاس والدار البيضاء والجزائر وفرانكفورت وقطر وبيت لحم و... و... و...؟
أظن أن كتابها هذا في جانب منه يعد سيرة ذاتية لها، وإن افتقد الترتيب الزمني. وأظن أن كتابها هذا في جانب منه سيرة موجزة للمدن المذكورة. وما لا شك فيه، وهذا ما يقوله لنا العنوان، أنه كتاب عن النساء اللاتي التقت بهن في رحلة حياتها الطويلة التي امتدت منذ العام 1966 تقريباً، وإن كانت ولدت قبل هذا التاريخ بسنوات.
ويذكر كتاب ليلى هذا بكتب أخرى لكتاب أردنيين وفلسطينيين، يذكرنا بكتابات الشاعر أمجد ناصر (خبط الأجنحة) وبكتابات محمود شقير " مدن فاتنة... هواء فاسد " وهي كتب أتى فيها مؤلفوها على ما شاهدوا ورأوا في أثناء رحلة حياتهم الغنية والثرية، وكان نصهم الذي يعبر عن علاقة صاحبه بالمكان الذي زاره، كان نصهم يثرينا أيضاً بأبعاد معرفية عن المكان المتحدث عنه.
ويبدو أن هم ليلى لم يكن، ابتداءً، الكتابة عن الذات أو عن المدن التي زارتها، قدر ما كان الكتابة عن نساء لفتن نظرها، وكانت لكل واحدة منهن قصة لافتة. وسنجد أن الكتابة عن الذات وعن المكان الذي التقت به ليلى بالنساء حاضرة حضوراً لافتاً لدرجة أن المرء أحياناً يرى ثمة هوة بين عنوان النص وما أدرج تحته. ولا يشفع لليلى هذا الابتعاد والاستطراد سوى قدرتها على القص. فأنت تقرأ عن فتاة ما، تلفت نظرها، ثم تجد نفسك تقرأ عن ليلى وعن المكان، فتظن أن الكاتبة ابتعدت عن الموضوع ونسيته، لولا أنها تعود إليه، لتكمل ما ظننته فاتك، وهكذا تكتمل الدائرة، بعد استطراد غير ممل على أية حال.
ويتكون الكتاب من سبعة نصوص هي: الماسة السوداء، وقالت ربى وسكت الرجال، وابنة السماء.. جميلة، وعزة... يتيمة الرباط، وراكبة من الدرجة الأولى، وامرأة من المنطقة الحمراء، وقتيلة الشرف... لا اسم ولا عنوان. تكتب في الأولى عن فتاة كاميرونية التقت بها في مدينة ( بتسبرغ ) الأمريكية، حين كانت ليلى كاتبة زائرة في أمريكا، وهناك تظل مريم المسلمة أسيرة مجتمعها وعاداته وتقاليده، ولا بد من المحافظة على عذريتها، وتكتب في الثانية عن ربى الفلسطينية المقيمة في لبنان، فتمجدها، لأنها تكلمت حين صمت الرجال خوفاً، وذلك بعد مذابح صبرا وشاتيلا، وفي الثالثة تكتب ليلى عن جميلات الجزائر الثلاثة؛ بوحيرد وبوباشا وبوعزة، ضحين من أجل الوطن فتخلى عنهن بسبب مفهوم العذرية أيضاً، وتكتب في الرابعة عن عزة المغربية ومأساة فتيات المغرب حين يضطهدن ويغتصبن ويضعن، وأما في الخامسة فتكتب عن الأم الفلسطينية غير المتعلمة التي تعلم ابنيها، وتشكو من زوجها لأنه تزوج عليها ثانية، وهكذا هم الرجال، وأما في السادسة فتكتب عن القوادة والدعارة في فرانكفورت ومدن أوروبية أخرى. ويكون النص السابع هو الأقدم إذ تكتب ليلى عن مأساة شاهدتها في ربيع العام 1967 في منطقة بيت لحم: قتل الأخ أخته لأنها هربت من بيت زوجها الذي أجبرت على الزواج منه.
كتاب (نساء على المفارق) كتاب نثري ممتع، فهو يروي عن مأساة المرأة، كما تراها امرأة كاتبة.
نساء على المفارق: الماضي والحاضر
في النص الأخير من الكتاب، وعنوانه (قتيلة شرف... لا اسم ولا عنوان)، تكتب ليلى الأطرش: " أذكر قتيلة بيت لحم كلما قرأت عن جرائم الشرف... ( تاييرها ) الأزرق ينحسر عن ساق شديدة البياض، تختلج ويهتز جسدها بالموت في استسلام، تنزف دمها وروحها عند عتبة أبواب صدت دونها، يمشي فوق جثتها طفل قتلها، ويتركها سائق عابر رغم نبض الحياة فيها ".
وما من عام إلاتقرأ ليلى، ونقرأ نحن أيضاً، عن جرائم الشرف، وقد يقتل في الأردن عشرون أخاً عشرين أختاً، وقد يقتل العددُ مثلُه أيضاً هنا وفي غزة. ما رأته ليلى في العام 1967 تسمع عنه كل عام وتقرأ عنه في الصحف والمجلات، ما يجعلها تستحضر المنظر بكامل قسوته ووحشيته. وهؤلاء العشرون القتيلات لم يمارسن وحدهن ما مارسن، ولكنهن الحلقة الأضعف على ما يبدو، فلو أردنا تطبيق ما طبق عليهن على آخرين مارسوا السلوك نفسه، لربما بلغت نسبة قتلى الشرف 20%، ولو اردنا تطبيق القانون، قانون القتل الذي بموجبه قتل القاتل، لا القانون الذي تسنه الدولة العصرية، لربما قرأنا الفاتحة على نصف المجتمع، هذا إذا بقي لنا متسع من الوقت لنقرأها، فقد نكون أيضاً ضمن قائمة القتلى. ولربما أدرك المسيح، عليه السلام، الحقيقة حين قال: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر. ومن منا بلا خطيئة؟ لكن يبدو أن حظنا وقف إلى جانبنا، فلم نكن الأضعف، أو لعلنا أخفينا ما يدفع إلى القتل، لعلنا أو لعل المكان الذي مارسنا فيه خطايانا بعيد عن مجتمعنا، حيث لا يلتفت إلى الشرف الفردي التفاتنا إليه.
وأنا أقرأ ما كتبته ليلى الأطرش تحت عنوان " قتيلة شرف.. لا اسم ولا عنوان "، وتحديداً الفقرة المقتبسة: " أذكر قتيلة بيت لحم كلما قرأت عن جرائم الشرف.. " أتأكد من أن هناك لحظات أو تجارب يمر بها المرء في شبابه تلح عليه، فأخاطب نفسي:
" ما زلت تتذكرها تلك الفتاة.. المدينة ( بامبرغ )، فما الذي أتى بها إلى غرفة الغسيل... تغازلها وتدعوها إلى غرفتك فتأتي، وحين تقدم لها العصير لا تشربه. لماذا إذن لبت الدعوة، أتخاف؟ الفتاة تلك تنقل كل ما جرى بينكما إلى جهة ما. كانت مرسلة من طرفها... وكلما رأيت فتاة وحاورتها تستحضر تلك الحالة، وأذكر فتاة غرفة الغسيل كلما جلست إلى جانبي امرأة وفتاة في...... " وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.