

قراءة في شعر فدوى طوقان
بدأ الأدب شعراً، فالشعر لغة العاطفة، والعاطفة لغة الشعر. وكما يبدأ الطفل بالشعور والاحساس، بالضحك والبكاء، بالألم والسرور، ثم ينتقل الى طور الفكر ودراسة الامور بالعقل.. كذلك تبدأ الامم بالشعور والاحساس وتعبر عنه بالشعر، الذي يولد من المعاناة والألم. ومع مأساة فلسطين، التي تصارع الموت انسكبت الشكوى داخل القلوب فاشعلتها كالنيران وفجرتها كالقنابل.
ومن الشعراء الذين خلقتهم المأساة الفلسطينية خالدة الذكر فدوى طوقان، التي تحل في هذه الأيام،ذكرى رحيلها التاسعة، ابنة جبال النار وشقيقة الشاعر الفلسطيني الخالد ابداً في الذاكرة ابراهيم طوقان، الذي اختطفته يد المنون وهو في زهو الشباب وعمر الورود.
وقد اتحفتنا الراحلة فدوى طوقان خلال مسيرتها الشعرية بـ (8) دواوين شعرية وهي:"وجدتها، وحدي مع الايام، اعطنا حباً، امام الباب المغلق، الليل والفرسان، الوجه الذي ضاع، على قمة الدنيا وحيداً، وقصائد سياسية".
تعكس فدوى في اشعارها مشكلة القلق النفسي والضياع الذي يعاني منه الجيل الصاعد المؤمن بالحرية. وطبيعي ان تغني للهروب من الواقع الذي تجلى في اتجاهها نحو الطبيعة. وتؤكد مدى تأثرها بالرومانسية حين تعانق الطبيعة وتذوب فيها الى درجة تبلغ حد الصوفية.. فاستمع اليها تقول في قصيدة "مع المروج":
هذي فتاتك يا مروجفهل عرفت صدى خطاهاعادت اليك مع الربيعالحلو يا مثوى صباهاعادت اليك ولا رفيقعلى الدروب سوى رؤاهاكالأمس، كالغد ثرةالاشواق، مشبوباً هواها
وهي ابنة للطبيعة في معظم اشعارها الاولى، ويبدو ذلك واضحاً في هذا البيت من قصيدة "اشواق حائرة":
اهي الطبيعة صاح هاتفهااهي الحياة تهيب بابنتها؟
وما يلفت النظر في شعر فدوى طوقان تلك النفحة الحزينة، التي استفاضت في دواوينها. ولو بحثنا عن سبب هذه الاحزان، التي ملأت قلبها حتى اصبح الاسى لغتها وعاصفتها الهوجاء، فنجد ان تجربتها تقوم على ما يلي:
• حرمانها من العطف والحنان وهي طفلة.
• ثورتها على تقاليد مجتمعها البالية، التي وقفت حائلاً بينها وبين انطلاقة نفسها.
• وفاة شقيقها ابراهيم ومن ثم نمر، الذي سطا عليه الموت دون ان تلقي عليه نظرة الوداع الاخيرة ورسم القبلة على جبينه بسبب وجودها في ارض الغربة:
اهكذا بلا وداع يا حبيبنا ويااميرنا الجميللا نظرة اخيرة تحملها زاداً لنافي وحشة الفراق.
وحياتها ـ كما اسلفنا ـ مليئة بالمآسي والاحلام حتى قيل انها خليفة الخنساء. انها تبكي لتمسح الاحزان من افئدة الأشقياء المعذبين، وقلبها وحياتها شوق وديوان شعر وعود.. فتقول:
حياتي، حياتي اسى كلهااذا ما تلاشى غدا ظلهاسيبقى على الارض منه صدىيردد صوتي هنا منشداًحياتي دموعوقلب ولوع.
وتتساءل اذا كان اللـه يسمعها وقد عادت اليه بعد قلق وضياع لكنها في النهاية تجد ان رحاب الرب ما زالت مغطاة بالتراب:
ان كنت هنا فافتح لي بابك لا...تحجب وجهك عنيوانظر يتمي وضياعيبين خرائب عالمي المنهاروعلى كتفي احزان الارضواهوال القدر الجبارعبثاً لا رجع صدى لا صوتعدوي، لا شيء هنا غير الوحشةوالصمت وظل الموت.وتكاد تكفر باللـه لانه لم يات لنجدتها:انت يا من قيل عنه انه هناكحان لطيف بالعبادحان لطيف بالعباد اين انت ؟دعني اراك كي اقول، انه هناك.
وعند اشراقة القمر الوضاء في الليالي الدامسة تتذكر شقيقها "ابراهيم" حبة القلب وضوء الناظرين، فتظلم نفسها وتتساءل عن وجوده، الى اين ذهب؟؟؟
كلما اشرق في الليل القمرمترعاً بالنور اعصاب الزهراظلمت نفسي وهاجتني الذكرىكيف غيبتك في ظلمة قبركيف اسلمتك للتراب المهين.
وترد على الذين يقولون ان البشر في هذا العصر لا يذكرون امواتهم اكثر من يومين او ثلاثة ثم ينسونهم.. لكن كيف تنسى "ابراهيم" و"نمر" ؟ كيف تنسى الورود الفواحة والشموس والاقمار؟انها تمنحهما دماء الفؤاد ودموع العين.. فتقول في هذه الابيات، التي تفوح بالالم والكآبة:
ان اخت، انا لي قلب الاختهل تلقى اخت اخوتهافي ظلمة فبر النسياناتوارى اخت اخوتهافي ابشع قبر اقسى موت.
وفقدان فدوى لشقيقها عز على صديقتها الشاعرة الفلسطينية "سلمى الخضراء الجيوسي" صاحبة ديوان "العودة من النبع الحالم" فبعثت اليها بهذه الابيات لمواساتها:
يا ثروة الحلم غني لي العدمغيبي وراء حدود النجم هاربةولا تقولي ردي في شاطىء الوطن.
وفي قصيدة "في درب العمر"نجدها سائرة في طريق عمرها تزرع بذور المحبة في قلبها المعذب كي يغرق ابناء البشرية فيه.. وفي النهاية لم تجد سوى الاشواق تقف في درب عمرها:
وخلتني ملأت منهم يديوخلتهم قد ملأوا قلبيفلم يطل وهمي حتى هوىخنجرهم وغاص في جنبيوضحكت نفسي في سرهاهازئة مني ومن حبيوسرت مع قلبي وحيدينلا شيء سوى الأشواك في الدرب.
ومع آهاتها تتفجر اشواقها الى جنة معطرة باريج الزنبق والبرتقال، وكون جديد يشرق بالحب الانساني ويملؤه الامل:
اعطنا حباً فالبحب كنوز الخير فينا تتفجرواغانينا ستنحصر على الحب وتزدهروستنهل عطاءً وثراءً وخصوبةاعطنا حباً فنبني العالم المنهار فينامن جديدونعيدفرحة الخصب لدنيانا الجديبة.
وهي تطالب بالحب كمجال رحب للقاء الانسانية وكانطلاقة جديدة تحطم جدران العزلة والعبودية والموت من اجل "بناء العالم المنهار واعادة فرحة الخصب للدنيا الجديبة":
اعطنا اجنحة نفتح بها افق الصعودننطلق من كهفنا المحصور من عزلة جدران الحديداعطنا نوراً يشق الظلمات المدلهمة.
وحبها الانساني الصادق يتمثل في قصيدة "كلما ناديتني" الرقيقة.. فالحبيب ينادي وهي تعيش من اجله وتضحي في سبيل سعادته بعد ان منحته روحها وقلبها وعقلها:
نادني من آخر الدنيا البيكل درب لك يفضي فهو دربييا حبيبي انت تحيا لتنادييا حبيبي انا احيا لالبي.وتستحلف ربها كي يعيد اليها فؤادها وينير المصباح، الذي اطفأه:اشعله ارفعه قرب ليوجهك من دائرة النورفغياب حضورك يحبسنيفي العتمة في شرك الديجور.
وفدوى طوقان شاعرة نضال ومقاومة.. وبهذا الصدد نقرأ ما كتبه الناقد المصري المعروف غالي شكري في كتابه "ادب المقاومة":"لم تكن فدوى بمعزل عن الكارثة قبل الخامس من يونيو وانما كانت المأساة في دمائها تصبغ جانباً هاماً من اشعارها بلون احمر قان.. فلم تكن قصائدها في فلسطين مجرد تصيد لمناسبة من المناسبات.. وانما كانت موضوعاً اساسياً من موضوعات فنها وملمحاً رئيسياً لا يكتمل وجهها الشعري بدونه. وقد عاشت فدوى فلسطينية على الضفة الغربية من نهر الاردن.. اي انها كانت اقرب ما تكون من "الارض" وابعد ما تكون عنها.. ولذلك اختلف غناؤها عن غناء شعراء الارض المقيمين فوقها، فبينما تحددت نظرة هؤلاء في نطاق المعارضة للنظام العنصري تحددت نظرة فدوى في نطاق "الرفض الرومانسي للواقع".
ولهذا ترسل الوف غناءً من على سفح "عيبال" حيث تجلس وحيدة في ثناياه.. فتقول:
وارسل "الاوف" غناءحنونيسيل من روحي واوصاليفتنتشي بالاوف مرتعش بالحنينسمعته يوما بـ "عيبال"اذ انت في السفح غريب الجروح.
وفي قصيدة "بعد الكارثة" نجدها تسائل وتخاطب وطنها الفلسطيني، الذي غذاها من صدره الحب والحنان.. فتقول في هذه النفحة العاطرة كعطر برتقال يافا:
يا وطني، مالك يحني علىروحك معنى الموت، معنى العدمامضك الجرح الذي خانهمأساته في المأزق المحتدمجرحك، ما اعمق اغواره.
وحرية الشعب الفلسطيني هي نفس حرية النضال والمقاومة، التي تدعو اليها فدوى طوقان شاعرة جبال النار، والتي تحقق لانساننا الفلسطيني وجوداً فلسطينياً وللانسان وجوداً انسانياً:
ساظل احفر اسمها حتى اراهيمتد في وطني ويكبرويظل يكبرحتى يغطي كل شبر في ثراهحتى ارى الحرية الحمراء تفتح كل بابوالليل يهرب والضياء يدك اعمدة الضباب.
واذا كانت فدوى طوقان في دواوينها السابقة تؤكد مدى التصاقها في الطبيعة ومعانقتها للمروج وسنابل القمح وحدائق البرتقال، وتصوير لاحزان وآلام الذات، فان ديوانها "قصائد سياسية" الصادر عن اسوار عكا، شكل قفزة جديدة لها.. فقصائدها الغنائية جاءت صدى للاحداث الشرق اوسطية، وللاوضاع التي غطت الساحة الفلسطينية في السبعينات، وتجسيد للواقع الفلسطيني المأساوي المعاش، عدا التمزق الذي يلازم انسان القضية.. فمثلاً قصيدتها "على قمة الدنيا وحيدا" تمجيد للفارس الشهيد "وائل زعيتر" وتغني ببطولاته ومواقفه من القضية ـ وكما جاء التقديم "وضع الحقيقة الفلسطينية امام عيون العالم المضللل واللامكترث". وهي تخاطبه وترثيه بالقوة والاصالة الشعرية نفسها، التي عودتنا عليها في مراثيها لاخويها "ابراهيم" و"نمر":
انت يا شمس القضيةنم هنا في الوطن الحاني، فانت الآن فيهيا بعيداً وقريباًيا فلسطيني انت!ايها الرافض للموت هزمت الموت حين اليوم مت؟!كما انها ترثي ضحايا فردان، شهداء النضال، الذين كانوا قناديلاً نستضيء بهم في قطار المقاومة..ولكن:ماذا اقول لهم وعن عيني ومن قلبي تسيل دماؤهمذهب الذين نحبهرحلوا وما القت مراسيها سفينتهم ولامسحت حدود المرفأ النائي عيون الراحلين.
وتحدثنا عن حالة الغليان، التي تعيشها المدن الفلسطينية المحتلة في يوم السبت، الذي تمقته مقتاً شديداً، اثر تدفق جنود الاحتلال للمحافظة على "الهدوء والنظام":
الصبر يهاجر من قلبي ايام السبتان يهجم طوفان الخوذات علىالارصفة على الاسفلتالجيش هنا وهنا وهناك يسدبقلبي شريانييملؤني ذلاً ومهانة.
وهي تنتظر طلوع القمر بعد ظلام الاحتلال والاضطهاد.. والقمر رمز للبعث والولادة والحرية والانطلاق.. فتقول:
وانا في قبضة هذا الليلوالوطن هنا الغربة والنفيوانا في زحمة هذا الويليا قمري كيف وصلت الى؟!
او كقولها في "منتهى الحوراني" التي استشهدت برصاص الاحتلال وهي تقوم بواجبها الوطني والانساني:
وما قتلوا منتهى وما صلبوهاولكنما صعدت منتهىتعلق افراحها في السماء الكبيرة.
ومن ناحية البناء الفني لقصائد هذا الديوان، والذي لم نعهده من قبل، استخدامها بعض مقومات القصة القصيرة والرواية كالسرد والديالوج، وهذا ما نستشفه في رسالتها الى صديقها الغريب، التي تمتاز بصدق الشعور والواقعية:
وصلتني منك اليوم رسالةفيها نبض شعرترجع لي ذكرى الزمن الضائع من ايام العمرتنسيني هذا الزمن التائه زمن القهر.
كما انها تغرق في استخدام الاسطورة ـ الرمز، الذي يتجلى في نبوءة العرافة حين اختارت اسطورة قتل هابيل لاخيه قابيل للتعبير عن مأساة شعبها وقتله في ايلول الاسود وتل الزعتر:
قابيل الاحمر منتصب في كل مكانقابيل يدق على الابواب على الشرفات على الجدرانيتسلق يقفز يزحف ثعباناً ويفح بالف لسانقابيل يعربد في الساحات يلفيدور مع الاعصار يسد مسالك
وختاماً، لا بد للحب الفلسطيني ان ينتصر ويتحقق الحلم مثلما تحققت امنية فدوى طوقان في قولها:
كفاني اموت على ارضها وادفن فيهاوتحت ثراها اذوب وافنىوابعث عشباً على ارضها.