

قراءة في ديوان عشتار .. والمطر الأخضر
آخر إصدارات الشاعر والكاتب الفلسطيني لطفي زغلول هو ديوانه العشرون " عشتار .. والمطر الأخضر " 2007 . ويتكون الديوان الذي يقع في مائة واثنتين وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط من ثلاثة فضاءات ، هـي " أزاهير " و " ظلال القمر الآخر " و " قبيل اللحظة الأخيرة " ، اشتملت عل ستين قصيدة .
ويضم الديوان إضافة إلى الجديد قصائد قديمة ، كان الشاعر قد نظمها في الستينيات من القرن العشرين المنصرم ، وتحديدا قبل حقبة الإحتلال الإسرائيلي ، يوم كان ينظم الشعر ولا ينشره ، لأسباب شخصية تخصه . وثمة قصائد أخرى تعود إلى حقبة الإحتلال الإسرائيلي .
والمعروف أن الشاعر لطفي زغلول قد بدأ بنشر قصائده في أواسط الثمانينيات من القرن العشرين . وقد اتجه شعره اتجاها سياسيا بعد تخليه عن مهنة التدريس في المدارس الثانوية الحكومية ، والتحاقه بسلك التعليم الجامعي ، وانطلاق الإنتفاضة الأولى في العام 1987 .
هل كانت الوظيفة إبان الإحتلال ، هي ما حالت دون كتابته أشعارا سياسية غاضبة ، يذكر بعض منها ، وهي كثيرة جدا ببعض أشعار نزار قباني السياسية ، وبعضها بأشعار مظفر النواب ، مع اختلاف الموضوعات والأسلوب اللغوي ؟ . ربما . وربما يكون الكيل قد طفح بالشاعر زغلول ، بعد هزائم عديدة مر بها العالم العربي وعاشها أستاذ التاريخ الذي تعرف في العاصمة السورية دمشق ، إلى القوميين العرب ، يوم كان يدرس التاريخ في جامعتها " 1958 – 1962 " .
والشاعر لطفي زغلول الذي يخاطب المرأة في ديوانه هذا " عشتار .. والمطر الأخضر " ، ويخصص لها مساحة كبيرة ، بل المساحة كلها ، من الإداء حتى آخر قصيدة ، يأتي أيضا على الشعر ، ويفصح ، في كثير من قصائده ، عن علاقته به وفهمه له ، وانحيازه لنوع معين منه ، ورفضه لنوع آخر .
وهو يأتي أيضا على ذكر أبي الطيب المتنبي شاغل الدنيا . ويكون إتيانه عليه غير منفصل عن موضوع الديوان الرئيس : المرأة ، وهي هنا شاعرة فرنسية تعرف عليها في باريس ، هي التي سألته عن المتنبي ، وهكذا تكون القصيدة : " هل تحب المتنبي ؟ " .
وحين يكتب المرء عن المتنبي في أشعار زغلول ، فلا بد من أن يشير إلى حضور هذا الشاعر – أي المتنبي - في الشعر العربي : قديمه وحديثه ، لأنه ترك أثرا كبيرا فيه ، ما جعل الدارسين يتوقفون أمام تأثيره فيمن تبعه من الشعراء العرب .
تأثر بالمتنبي شعراء عرب معروفون ، ففي فترة الحروب الصليبية تأثر به أبرز شاعرين في حينه : ابن القيسراني وابن منير الطرابلسي ، وقد أتى الدارسون القدماء والدارسون المحدثون على هذا ، فعرفنا ، أيام المماليك المتنبئيات ، وعرفنا في العصر الحديث المعارضات . ولا يخفى على دارس الشعر العربي الحديث ما قام به البارودي الذي كتب على غرار شاعر القرن الرابع الهجري ، حتى عد شاعر الإحياء " إحياء الشعر العربي " .
ولقد التفت دارسو الشعر العربي المعاصر إلى حضور أبي الطيب المتنبي في اشعارهم ، واستحضار الشعراء له ، وأبرز هؤلاء الدارسين علي عشري زايد في كتابه " استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر " ، وخالد الكركي في دراساته العديدة ، وأبرزها كتابه : الصائح المحكي : صوت المتنبي في الشعر العربي الحديث " 1999 ، وقد ألحق بدراسته أربع عشرة قصيدة كتبها الشعراء العرب يخاطبون فيها المتنبي أو يعبرون من خلال تجربته عن تجربتهم ، أو عن رؤيتهم من خلاله . هكذا كان المتنبي مرآة للشعراء تارة ، وقناعا لهم طورا .
ولم يخل الشعر الفلسطيني من قصائد استحضر اصحابها فيها المتنبي . محمود درويش كتب قصيدته " رحلة المتنبي إلى مصر " ليعبر عن تجربة مشابهة له مر بها في أواخر السبعينيات من القرن العشرين ، وقد التفتنقاد كثيرو إليها ، وخصوصا بقراءات ودراسات . وسميح القاسم ايضا كتب قصائد استحضر فيها المتنبي ، وأتى عليه ، كما فعل محمود درويشفي المقابلات التي أجريت معه .
وإذا كان الأول قد أعجب بشاعر القرن الرابع الهجري ، فإن الثاني – أي القاسم – أعجب به شعرا ولم يعجب به سلوكا ، ورأى في قصيدته ما يفوق قصيدة المتنبي ( أنظر مقالتي في الدستور ، بداية أيار / مايو 2006 : سميح القاسم والمتنبي ، وانظر ديوان العرب ، مجلة الكترونية تصدر في أميركا .
وثمة شاعر ثالث لم ياتفت إلى قصيدته هو مازن دويكات . في ديوانه " وسائد حجرية " ( 2003 ) يستحضر مازن أبا الطيب ويبرز له صورة إيجابية . يرى فيه وفي اشعاره ما رآه محمود درويش في مقابلاته : لم يكن المتنبي حين مدح الآخرين ، يمدحهم ، وإنما كان يمدح شخصه هو ، وحين كان يهجوهم كان بالفعل يهجوهم : " الآخر وجه هجائي .. وأنا وجه مديحي .
يكتب مازن دويكات على لسان المتنبي ، وربما عكس مازن أكثر من هذا ، فقد قال ما قاله المتنبي عن ذاته ، وقال ما قاله الشعراء الآخرون المعجبون به عنه . هكذا كانت قصيدته قصيدة إعجاب لا قصيدة ذم . إنه يختلف عن زكريا تامر في رؤيته للمتنبي في قصصه ، تامر الذي أبرزصورة سلبية للمتنبي .
فما هو موقف الشاعر لطفي زغلول من المتنبي ؟ . تسأله المرأة " الشاعرة الفرنسية " : هل تحب المتنبي ؟ ، وهو الذي في الحب لا ينكر حبه ، وهو صب في هوى المتنبي ، وأي صب ؟ . المتنبي شاعر كبير وذكراه تضيء الحب في ظلماء قلب الشاعرالمسؤول .
سأَلتنِي .. هل تحِبُّ المُتنبِّيإيهِ يا سائلتي .. واحرَّ قلباه ُ..فمن إلاَّهُ .. ذِكراهُ ..تُضيءُ الحبَّ في ظلماءِ قلبِيأنا لا أُنكرُ حبِّي .. أَيْ وربِّيأَنا صبٌّ في هواهُ أيُّ صبِّ
والمتنبي في نظر الشاعر لطفي زغلول ، كان فارسا ، امتطى العلياء مهرا ، وكان حرا يعربيا ، كان تاريخا وعصرا ذهبيا . ولأنه كان ما كان فقد ظنه الآخرون نبيا
سوفَ أَتلُو لكِ من ذكراهُ ذكرَافارسَاً كانَ امتطَى العلياءَ مُهراكانَ حرَّاً يعرُبِيَّاكانَ تارِيخاً وعصراً ذهبيَّاكانَ ما كانَ .. فظنُّوهُ نبيَّا
هكذا يقول لطفي عكس ما يعرفه الآخرون ، فالمتنبي هو الذي ادعى النبوة . وفي ذلك خلاف .
ويرى لطفي زغلول ، مثله مثل مازن دويكات ، ما يراه المتنبي نفسه في نفسه : إنسان مغاير مختلف عن البشر ، وإن كان ، وإن كان يعيش بينهم . هكذا يعيد الشاعر الحديث صياغة قول المتنبي :
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغامُ
يعيده على النحو التالي :
لم يكن في العيش بين الناس منهمفتعالى برؤاه وتسامىكالنبيين اقاماذهباً كان رغاما
وربما ذكرنا السطر الثالث " كالنبيين أقاما " بقول المتنبي نفسه :
ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهودِ
ويرى لطفي زغلول أن الشعر لم يصبح شعرا إلا حين كتبه المتنبي . هل يتطابق هذا وما كان قاله محمود درويش في أشعار المتنبي؟ . بتواضع يغبط عليه قال درويش مرة : إن كل ما قلته من أشعار لا يساوي نصف بيت من شعر المتنبي .
يتساءل لطفي زغلول :
من سواه أشعل القرطاس فكرامن سواه كلل الهامات كبرامن سواه .. يوم غنى الشعر ..صار الشعر شعرا
وربما تذكر المرء قول المتنبي : أنا كل يوم تحت إبطي شويعر .
وكما قال درويش ، يقول زغلول أيضا :
أنا مهما قلت عنه
لم أقل إلا حروفا من كتابْ
لماذا ؟ لأن المتنبي خالد . ذهب ملوك ، وجاء ملوك وذهبوا ، ولم يخلد إلا المتنبي . كان دارسوهذا الشاعر ، وهم يدرسون رومياته يتساءلون : من الذي خلد الآخر : المتنبي أم سيف الدولة ؟ . وكان الجواب : هناك عشرات من الشعراء أيام سيف الدولة ، وكتبوا قصائد فيه ، ولم يعد أحد يذكرها أو يذكرهم ، في حين أن قصائد المتنبي هي التي خلدت ، وهكذا خلد سيف الدولة .
يقول الشاعر زغلول :
إيه يا سائلتيمرت عصور وعصورولكم هلّ ملوكٌ .. ولك ولّى ملوكُولكم سادت قصورٌولكم بادت قصورُوأبو الطيب في عليائه ..ما هجر الساحات .. أو يوما ..عن الخيل أو الليل أو القرطاس غابْهرم الشعر .. وشعر المتنبيلم يزل يرفل في شرخ الشبابْ
وسيعود الشاعر زغلول ، في المقطع الأخير من قصيدته ، ليقارن بين أشعاره وأشعار المتنبي ، وليبين لماذا يسكنه أوج فضائه ، ولماذا هو مزهو بأبي الطيب :
إيه يا سائلتي ..كيف لا أسكنه أوج فضائيكيف لا أزهو بهذا الكبرياءِأنا في بحر قوافيه .. ركبت الشعرحتى صار لي بحري ومائيأنا منه وإليهوهو حتى أنتهي ..رحلة عشق في شرايين دمائي
لم يقف الشعراء العرب أمام المتنبي وأشعاره منذ عصر الإحياء ، بل وقبل هذا العصر – أي منذ زمن الحروب الصليبية . ها هو المتنبي يحضر أيضا في القرن الحادي والعشرين . ما هو السحر الذي يكمن في هذا الرجل وأشعاره ؟ . هذا هو السؤال الذي يثيره المرء وهو يقرأ أشعار الشعراء العرب ، وقصيدة الشاعر لطفي زغلول ، في ديوانه الآخير " عشتار .. والمطر الأخضر " .