الأربعاء ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم لطفي زغلول

قراءة انطباعية في المشهد الحداثي في الساحة العربية

الحداثة أو الحدوثة مفردة عربية تحمل معاني كثيرة، منها الإيجاد أو الابتداع أو الوصول بالشيء المقصود إلى أقصى حالات التغيير في كل من الشكل والمضمون، وأرقاها في زمن معين. وهي حالة نسبية لا مطلقة، كونها تتغير بمرور الزمن وتبدل المكان والمنطلق والرؤيا.

والحداثة من الصفات التي لازمت المسيرة الإنسانية عبر مراحل تطورها الثقافي والحضاري، علاوة على أنها لم تكن حكرا على أي من الحضارات أو الثقافات. وفي الحقيقة إنها كانت تشكل قاسما مشتركا لها في شتى الميادين. إلا أنها في نفس الوقت كانت متفاوتة الوتيرة في سرعة إيقاعها واتجاهاتها. وفي ذات الوقت تختلف وتيرة تسارعها من مجتمع إلى آخر، أو مدى الإيمان بها كحركة ضرورية وحتمية.

وقد عايشت الحضارة العربية الإسلامية هذا المفهوم الذي لازمها على مر عصور ازدهارها، كونها أساسا لم تكن منغلقة على نفسها. وعلى النقيض من ذلك كانت منفتحة على الآخر ومتسامحة معه أيا كان. إلا أنها ظلت تحتفظ بمزاياها وتميزها وخصائصها وخصوصيتها، وترفض الذوبان في أي ذات أخرى، أو الانصياع لها أو اتخاذها مرجعية. وهي في ذات الوقت عالية غير متعالية، ومعتزة معزوزة غير وضيعة مهزوزة بعطائها.

وفي التاريخ العربي المعاصر، وتحديدا منذ خمسينات القرن العشرين المنصرم، شهد العالم العربي تنامي موجة تحديث لشتى مرافق حياته المادية، وغير المادية. فلم يكن هناك ادنى خلاف على تحديث الجوانب المادية. إلا أن الخلاف استعر على ما يخص الجوانب الثقافية. حيث طغت على تفكير شريحة من المثقفين والمبدعين العرب موجة عاتية آخذة في الانتشار والاتساع، أسفرت في أحيان كثيرة عن ارتماء في أحضان الثقافة الغربية، وتقبل كل ما تنتجه دون تمحيص ولا تقويم أو تقييم، على اعتبار أنها ثقافة الأقوى المستعمر المنتصر الأرقى التي لا ينبغي لأحد محاكمتها، ويفترض قبولها على علاتها.

وتنعكس مظاهر هذه الموجة في " إبداعات فكرية أو أدبية، والشعر واحد منها ". وقد أفرزت أدبا وشعرا يصر مبدعوه الحداثيون على أن هويته عربية حديثة وعصرية وحتى عالمية. وحقيقة الأمر هو إبداع قوالبه وأشكاله وأساليبه ومدارسه ومنطلقاته ورؤاه مستعارة من الثقافة الغربية التي يبشر بها هؤلاء الحداثيون اغرب، ويقومون بتسويقها على أنها الحل الجذري لتخلف المشهد الثقافي العربي الذي سوف يظل يعاني من التحجر والانجماد والتقوقع إذا لم يأخذ –على حد ادعاء هذه الشريحة – بالتجربة الثقافية الغربية التي لها الهيمنة السياسية والعسكرية والعلمية والتقنية، وبالتالي فان كل ما يصدر عنها من هذا المنظور يشكل المرجعية الأخيرة لكل بني البشر. وأما الخصوصيات والكماليـات فقد انتهى مفعولها وزمانها.

وقبل الخوض في فعاليات تسويق هذا النوع من الحداثة على أيدي هذه الشريحة المثقفة العربية، يجدر بداية إضاءة فضاءات هذه " الحداثـة " والتحليق في مساراتها ومعارجها. فالحداثة هنا والتي يجري الترويج لها في الوطن العربي، هي في الحقيقة نموذج أوروبي هدفه أصلا أن يواجه الإنسان مصيره مستقلا. وهي تعتمد الذات البرجوازية.

ولدى دراسة الإبداعات الأوروبية التي تنتمي إلى مدرستها فإنها باختصار تضعنا أمام نماذج من الإبداع حطم كل أشكال التقاليد وتجاوز منظومة المحظورات والمحرمات والتحفظات التي تقوم عليها فلسفات المجتمع. وأطلقت في ذات الوقت العنان لكافة المشاعر والأحاسيس والرغبات والنزعات والغرائز الكامنة في الإنسان إلى فضاءات من الحرية ليس لها حدود، مخلفة وراءها كافة الأساليب والقوالب الإبداعية الجماعية التي كان متعارفا عليها على مذبح الفردية.

وبمعنى ابسط فالحداثة الأوروبية قبل أن تكون في القوالب والمدارس الإبداعية كانت في الفكر والرؤيا والأيديولوجية. وقد يكون هذا الشكل الحداثي مقبولا في أوروبا نظرا لتطور مفهوم الحريات، ونظرا لوجود مؤسسات قوية قادرة على أن تحافظ على الموروث والأصيل.

إلا أن الخطورة تتمثل في فرض هذه الحداثة على العالم الثالث وفي مقدمته العالمان العربي والإسلامي. فهذه الحداثة لم تنطلق من صميم الفلسفات المحلية لهذا العالم ولا لصالحه، ولا على أيدي مفكريه ومبدعيه. وإنما تم تسويقها له لاعتبارات ودوافع سياسية واقتصادية وأمنية على طريق هيمنة العولمة الشمولية الهادفة إلى الاستحواذ على العالم.

إن قراءة ثاقبة في حيثيات محاولات نشر هذا المفهوم الثقافي الحداثي الأوروبي خارج أسوار الحضارة الأوروبية يطرح يقينا حقائق كثيرة. فهي في مجملها أفكار تحمل صفات الغزو. وهي تستهدف إلى تهميش الثقافات الأخرى أيا كانت واستثناؤها بعامة، وعدم الإيمان بمبدأ التعددية الثقافية بخاصة، ذلك أنها تأتي في إطار حملة تنطلق من مركزية الثقافة الأوروبية وهي ثقافة الأقوياء المفروضة على الضعفاء. وهي في المشهد الأخير النموذج الثقافي المفترض أن يحتذى، والمرجعية النهائية التي يلتجأ إليها. وهذه هي العولمة الثقافية بأبسط معانيها.

وعودة إلى هذه الشريحة الحداثية العربية، فلدى استقراء خارطة المشهد الثقافي والإبداعي الخاص بها فانه يفرز حقائق لا لبس فيها. فالعملية بحد ذاتها لم تكن في مجملها تستهدف تحديث الواقع العربي الثقافي بمعنى التطوير وإنما كانت تستهدف هدم صروح الثقافة العربية الأصيلة بوساطة " جرافات الحداثة لإقامة مستوطنات ثقافية غربية الطراز والشكل والرؤى ".

لقد سمحت هذه الشريحة المثقفة الحداثية العربية لنفسها مثالا لا حصرا أن تتطاول على صروح الشعر العربي، وان تتسلل إلى عرش القصيدة العربية، وان تعريها من كل ما يمت إلى عروبتها بصلة فداست على أوزانها وقوافيها ورؤاها وخطابها وغيرت اتجاهاتها، وأغرقتها في بحر من الأساطير والطلاسم والتهاويم، وأخرجتها من ساحة نضالاتها إكراما لقصيدة الثقافة الغربية. ولكي تكون تابعة لا سيدة مستقلة وصدى لا صوتا.

وهي لم تقف عند هذا الحد بل تجاوزته إلى مجمل الفكر العربي، والأسس التي يقوم عليها وتطاولت على كثير من منظومة القيم والمثل والمفاهيم العقائدية والأخلاقية باسم الحرية التي تنادي بها هذه الحداثة أو باسم حقوق الإنسان. وثمة أخيرا تساؤل يطرح نفسه في هذا السياق يخص الإبداعات العربية المعاصرة تحت ظل هذه الحداثة : هل قفزت قفزة نوعية ترضى عنها الأوساط الثقافية الأوروبية ؟. اغلب الظن أن هذه الأخيرة في قرارة نفسها لا تحترم المقلدين التابعين وتظل تنظر إلى المحليات الأصيلة باحترام وتقدير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى