

في شعر فاروق جويدة...
الصورة الشعرية وخصوصيتها في شعر فاروق جويدة
إبراهيم خليل إبراهيم
تعتبر الصورة الشعرية من أهم مقومات فن العربية الأول إلي جانب اللغة والإيقاع فهي التي تميز بين الشعر الحقيقي و بين النظم المصمت.. فاللغة والإيقاع ليسا كافيين لإنتاج شعر جيد، وإنما يجب تضفيرهما بالصور الشعرية الطازجة لكي يرتقي الإفراز الإبداعي إلي لغة الشعر الحقيقية، وسوف ينصب اهتمامنا في هذا المبحث حول الصورة الشعرية وخصوصيتها في شعر شاعرنا الكبير فاروق جويدة تاركين اللغة والإيقاع لمناطق بحثية أخرى.
مما لا شك فيه أن الخيال هو التربة الخصبة لكل إبداع شعري مدهش، وإذا أوغلنا في شعر الشاعر الكبير فاروق جويدة نجد أن صوره الشعرية تمزج بين البساطة والتكثيف، وبين الإطلاق والتحديد في توافق رائع جعل من شعره الملاذ الجميل لجمهور عريض من عشاق الشعر.
نتوقف مع قصيدة لشاعرنا في حب الوطن بعنوان (حتي الحجارة..أعلنت عصيانها) والتي استوحاها شاعرنا الكبير فاروق جويدة أثناء عملية الهدم لكوبري أبو العلا حيث توقفت أدوات الهدم فجأة أمام حجر ضخم في قلب النيل.. قال :
حجر عتيق فوق صدر النيل / يصرخ في العراء
وقف الحزين علي ضفاف النهر
يبكي في أسى و يدور في فزع
ويشكو حزنه للماء
يبكي علي زمن تولى
كانت الأحجار تيجانا وأوسمة
تزين قامة الشرفاء
يترنح المسكين بين الخوف والإعياء
ويعود يسأل :
أين العصافير التي ارتحلت
وكانت كلما هاجت بها الذكرى تحن إلي الغناء ؟
أين النخيل يعانق السحب البعيدة
كلما عبرت علي وجه الفضاء
أين الشراع علي جناح الضوء
والسفر الطويل ووحشة الغرباء ؟؟
أين المواويل الجميلة
فوق وجه النيل تشهد عرسه
والكون يرسم للضفاف ثيابها الخضراء ؟
حجر عتيق فوق صدر النيل يبكي في العراء
حجر.. ولكن من جمود الصخر ينبت كبرياء
حجر.. ولكن في سواد الصخر قنديل أضاء
حجر يعلمنا مع الأيام درسا في الوفاء
فهنا أتى الشاعر فاروق جويدة بالعديد من الصور الشعرية الاستفهامية المتتالية وصاغها علي لسان الحجر المشار إليه، وهذه الصور الشعرية المتتالية التي بدأت بأداة الاستفهام (أين) تبحث عن أشياء مفقودة فتارة يسأل عن العصافير التي رحلت، وتارة يسأل عن النخيل الذي كان يعانق السحب البعيدة، وتارة يسأل عن الشراع المسافرة علي جناح الضوء، وتارة أخرى يسال عن الدموع التي تطل من مآقيها، وأخيراً نجده يسأل عن المواويل الجميلة التي كان يشهدها وجه النيل الرائع في زمنه الجميل.. هذه الصور الشعرية الاستفهامية المتتالية تعتبر من خصائص الصورة الشعرية لدي شاعرنا الكبير فاروق جويدة وهى تنتمي للصور الشعرية المركبة والمطلقة في آنٍ واحد.
وتعالوا نتأمل هذا البناء الشعري الرائع في قصيدة بعنوان (وكانت بيننا ليله) حيث يقول:
وكانت بيننا ليلهنثرنا الحب فوق ربوعهاالعذراء فانتفضتوصار الكون بستاناسبحت العمر بين مياهها الزرقاءثم رجعت ظمآناوكان الموج في صمت يبعثرناعلي الآفاق شطآناووجه الليلفوق الغيمة البيضاء يحملناوكانت فرحة الأيامفي عينيك تنثرنيعلي الطرقات ألحاناوفوق ضفافك الخضراءنام الدهر نشواناًوكانت بيننا ليلهوكان الليل كالقناص يرصدناويسخر من حكاياناتعانقناوصوت الريح في فزع يزلزلناويلقي في رماد الضوءيا عمري بقاياناوسافرنا.. وظلت بيننا ذكرىنراها نجمة بيضاءتخبو حين نذكرهاوتهرب حين تلقاناوتحكي كل ما كاناوكانت.. بيننا ليله
إذا نظرنا إلي البناء الشعري في هذه القصيدة التي اجتزعنا منها المقطع السابق نجده يتميز بالبساطة والخصوصية والرومانسية، وهذه الصفات إنما هي من أهم مميزات شعر الحب الإنساني لدى شاعرنا فاروق جويدة ربما هذا يفسر لنا أيضا سر جماهيريته، إذ أن تجاربه الشعرية تنأى عن التعقيد وتتوسط المسافة بين الغموض والمباشرة مما يجذب إليه شرائح كثيرة من القراء فلنتأمل قوله في بداية القصيدة:
نثرنا الحب فوق ربوعها
العذراء فانتفضت
وصار الكون بستانا
هذه الصورة الشعرية تنتمي إلي الصور الشعرية المركبة التي امتدت لمسافة إيقاعية طويلة مما عمّق الصورة لدى المتلقي.. فما أروع هذه الجذور التي نثرها شاعرنا فانتفضت وصار الكون منها بستانا
ثم يختتم شاعرنا هذه القصيدة بأروع ما يكون الختام حيث قال:
وسافرنا.. وظلت بيننا ذكرىنراها نجمة بيضاءتخبو حين نذكرهاوتهرب حين تلقاناتطوف العمر في خجلوتحكي كل ما كاناوكانت.. بيننا ليله
هذه الصورة الشعرية المركبة تجمع صوراً متلاحقة تمثل عدة مشاهد سينمائية توضح المعنى وترتقي به إلي سماوات الإبداع.
ومن أروع ما طرحه شاعرنا الكبير فاروق جويدة في هذه القصيدة التكرار الذي أضاف للمعنى وأثرى موسيقى هذه القصيدة فقد كرر جملة (وكانت بيننا ليله) علي مسافات مناسبة في القصيدة والتي تحمل نفس العنوان(وكانت بيننا ليله) وهذا التكرار لم يخل بالبناء الشعري للقصيدة بل أعطاها أبعاداً تأثيرية وموسيقية جيدة.
وإذا انتقلنا إلي قصيدة أخرى بعنوان (ألف وجه للقمر) نجد شاعرنا الكبير فاروق جويدة يقول:
في كل عام..تشرقين علي ضفاف العمرتنبت في ظلام الكون شمسيحتويني ألف وجه للقمرفي كل عام..تشرقين فراشة بيضاءفوق براعم الأيامتلهو فوق أجنحة الزهرفي كل عام..أمضي إليك علي جناح الريحيسكرني عبيركثم يتركني وحيداً في متاهات السفرفي كل عام..كنت أنتظر المواسمقد تجئ.. وقد تسافر بعدماتلقي فؤادي للحنين..وللظنون.. وللضَّجرْفي كل عامكان يحملني الحنين إليكأغفو في عيونك ساعةوتطل أشباح الوداعنقوم في فزع..وفي صمت التوحد ننشطر
وهكذا تنساب الرومانسية في كل شرايين وأوردة شاعرنا فاروق جويدة فالمدرسة الرومانسية هي أهم المدارس الفنية التي يعتنقها شاعرنا وربما يكمن هنا أيضا أحد أسباب جماهيريته العريضة فالرومانسية هى الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان وبالتالي فإن الإنسان مهما اختلفت معاييره الثقافية تكمن بداخله روح الرومانسية التي تجد صداها فتنطلق كلما ارتوت بمياه الشعر الرومانسى المدهش، وهذا ما يفعله شعر فاروق جويدة في نفوس الجماهير العريضة من القراء فيشعرون وكأنه يكتب عنهم ولهم في نفس الوقت.
وما أروع الصور الشعرية وأعمقها في القصيدة السابقة حيث تمتد هذه الصور لمسافات طويلة فمثلا : الصورة الأولي تبدأ من (في كل عام) وهو السطر الأول من القصيدة حتي السطر الرابع الذي يقول (يحتويني ألف وجه للقمر)
والصورة الشعرية الثانية تبدأ من السطر الخامس (في كل عام ) وتنتهي بنهاية السطر التاسع الذي يقول (ويغزل شوقنا المجنون أوراق الشجر)
والصورة الشعرية الثالثة تبدأ من السطر السابع عشر (في كل عام) وتنتهي بنهاية السطر الحادي والعشرين ( ثم يتركني وحيداً في متاهات السفر)
والصورة الشعرية الأخيرة تبدأ من السطر قبل الأخير في صفحة 132 (في كل عام) وتنتهي في السطر الرابع في صفحة 133 وفي صمت التوحد ننشطر..) في ( مختارات من شعر فاروق جويدة ـ قصائد للحب) والصادر عن مكتبة الأسرة عام 2003
وهذا ما يميز شعر شاعرنا الكبير (فاروق جويدة) حيث الصورة الشعرية المركبة والممتدة والبسيطة والرومانسية، ولأنه أحد أبناء هذا الشعب الطيب فقد عبر بصدق عن هموم الإنسان والوطن.