

فاكهة الندم
«فاكهة الندم» هو عمل ابداعي ونص جمالي للشاعر الفلسطيني عبد الناصر صالح، المقيم في طولكرم. وهو احد الاصوات الشعرية الرافضة والغاضبة وشديدة الحضور والتوهج في حركة الابداع الادبي الفلسطيني والحياة الثقافية والنضالية الفلسطينية تحت الاحتلال، وله صوته الخاص وملامحه المتفردة. وقد صدرت له عدة دواوين شعرية منها: «الفارس الذي قتل قبل المبارزة، داخل اللحظة الحاسمة، خارطة للفرح، المجد ينحني امامكم، نشيد البحر» وغير ذلك.
وعبد الناصر صالح يحمل هما وطنياً وقومياً وانسانياً يكاد يفوق كل همومه، وتحس بانه شاعر طبقي يكتب للفقراء والمسحوقين والمحرومين، عنهم ولاجلهم، لانه عاش وجاء من بيئة شعبية ينمو فيها بسطاء الناس. انه يؤمن بفكرهم وينحاز الى جانبهم في معركتهم نحو المستقبل الاخضر والاجمل، ولذلك نجد ان وطنه مرسوم بحب عظيم وكبير لهؤلاء الناس الطيبين، الذين سيرثون الارض، القاعدين والجالسين على الطرقات والشوارع، وبين الازقة والحارات، والسائرين في المظاهرات، والمناضلين المحبوسين والمسجونين في المعتقلات وسط دياجير العتمة والظلام، والمكافحين من اجل بناء مملكة الشمس والحرية والعدالة الاجتماعية الحقة والفرح الحقيقي.. فلنصغ اليه وهو يتساءل في قصيدته المدهشة "فاكهة الندم" التي حملت عنوان الديوان ويستهله بها:
من يرث الارضاعداؤها المستبيحونام حبل سرتها الفقراء؟
وتتشكل قصائد الديوان في لغة جديدة خاصة تستعيد تدفقها وألقها وحيويتها ولحظة اضاءتها من الواقع الراهن، منطلقة الى رحاب وأفاق الوطن المنتظر، مستوعبة كل الحالات القائمة والممكنة، ومعبرة عن الراهن الذي لا يكتمل، وعن الحلم الفلسطيني الذي يكاد يتجسد، وتعد لمرحلة قادمة بعد تسكين الالم وتضميد الجراح، ناسجة خيوط الفجر القادمة،التي تزهو بالوانها مع زقزقة عصافير الصباح:
ونرسم افراحنا قمراًوجزائر نخل على حلم هاجع في السماءوحيدين كنا كيوم الاجازةنكتب عن وردة تتسلق نافذة الشمسعن عاشقين يؤرقهم صمتهمويعذبهم بوحهمفي ظلال الحدائق.
وشعر عبد الناصر صالح هو شعر التجربة الفلسطينية المريرة، انه التعبير الحي والصافي عن معاناة شعب محتل ومحاصر ومحاط بالاسلاك الشائكة والاطواق الحديدية، ويقمع ويجوّع ويسفك دمه وتهدم بيوته وتصادر اراضيه. واذا كان الشعر الحقيقي هو الذي يغير الواقع ويطرح المعاناة والبديل معاً فأن الشعر بالنسبة لعبد الناصر صالح هو قيمة عليا لها طابع القدسية، وتجسيداً مثالياً للطموح والحلم الانساني والنبوءة الثورية بحياة افضل واجمل، ومصدر سعادة وفرح، فنراه يسجل يحسه ورؤيته ويسطر بدمه المعاناة اليومية الفلسطينية والاغتراب الذي يعيشه الانسان الفلسطيني ويعطي الصورة الواضحة للمشهد الفلسطيني الراهن:
نجتث جذور الكآبةحناؤنا المطر المتهجد في صفحة الكونوالشعر في ارائكنااي موت سيدخل فينا دماًوشرانق مسمومة!هكذا يبدأ الشجن المر يا صاحبييشعل الموت مصباحه المتهجميسقي حشائش صحرائناثم يخطفنا فجأة من خلال الشجروحيدين كناوحيدين ها نحن يا صاحبيمثل جذع قديم على حجر.
وعبد الناصر الملتزم بالهم الفلسطيني، بالارض والقضية والوطن، ومن خلال تجربته النضالية والكفاحية، التي تفولذت خلف قضبان الزنازين والسجون الاحتلالية، اكتسب طاقة ابداعية خلّاقة تنعكس في سطور قصيدة "ملائكة خضر وصبية فرعون" حيث تتفجر فيها مشاعره وتمتزج امتزاجاً فنياً مع بركان الغضب وانتفاضة الحجر وبطولات الانسان الفلسطيني،والعشق الدافئ لوطن الحب والالم والامل وسيد الكون:
لك المجد يا اخضر الوجه والقسماتلك الكبرياء، البهاءلك الريح والمطر الدافق السرمديالحقول مكللة بالسنابلتشدو على نغم الماء موالهالكأني اسميك يا وطني سيبد الكونسيد كل العصورالفصولوماوى الينابيع والصبية الفرحين الذين يجيئونمن اعين المستحيل.
وللشهداء والفقراء حضور ملح وقوي في الديوان، فهو يكتب لاجلهم ترانيم الحب والعشق، ويهتف للذين يسقطون و"تتوضأ الارض بدمهم" ويتجددون بعد موتهم ليرثواالحياة، والذين يعبدون طريق الحرية والاستقلال بدمائهم الفواحة .. فيقول في قصيدة "افق مطرز بالندى" التي قالها في حضور شهداء المسجد الاقصى المبارك:
دمهم هويتهموطين الارض كحلها الامينوزادهم عشق الترابيدافعونويسقطونويبعثونويسقطون وينهضونلا الموت يهزمهم ولا خوذ الجنود اليائسينويصمدونالقدس قبلتهمورايتهم تجوب الأفق نحو الشمس.
ورغم الألم والوجع والبكاء والجرح العميق فان شاعرنا يغني للفرح ويبشر بالآتي، الذي يراه في العيون الحالمة والوجه المشقق المليء بالحزن الشفاف:
خذي ما شئت من عمريومن عطر دمي الفواحطقس الماء والعشبانطلاق الفرح المسبيايقاع اغانيي التي تنفذ للروح.
وفي قصيدة "سندس المدينة كحلها" يرثي الفارس النصرواي القادم من "غرة الفرح الآدمي" الشاعر والمناضل توفيق زياد، الذي "القت الريح فوق مآذن مدينته وجهها المشرئب الشاحب ولآلىء كنيستها وبهجة اعيادها" حزناً واسى ولوعة لموته وفراقه التراجيدي، فيخاطبه بكلمات مؤثرة وحزينة:
يا سيد الكلمات الجميلةيا فارس المرجها انت تنهض مؤتلفاً كالمنارةمزدهراً كالنبوءة تنثر فيروزهافي صدور الذين آبوا الى وطن ملهم.
وينجح عبد الناصر الى حد بعيد في تصوير رواية الصمود والبطولة والمقاومة الفلسطينية في ظل القهر والحصار والقمع والعسف الاحتلالي، ورسم وتكوين ملامح المرحلة المقبلة والقادمة من مسيرة هذا الشعب المثخنة بالجراح والآلام، والشغوف بالحياة، فيخلد الى الحلم والنبوءة، رغم الانكسارات والهزائم والاخفاقات في هذا الزمن العاهر والمهترئ الرديء:
سيكتمل الآن ما بعثرته فتوحاتهمواحتفالاتهم بالهزائمهذا دمي بلسم العصر ملحمة النصر.
وهو يكثر من استخدام تعابير الرفض والثورة، ويهتم بالعنصر الموسيقي، الذي يوظفه بنجاح في ايحاءاته وتداعياته ورؤى قصائده وابعادها الوطنية والسياسية والقومية والطبقية:
تجيئين من سرة الارضمن بؤرة الفرح المتآكلحافلة بالاغاريدكوكبة ساهرةوموجة عشق على القلب تحنوواغنية عاطرةتجيئين مثل الهواء النقيعلى تلة زاهرة.
ويمتاز اسلوبه بالبساطة الممزوجة بالرمز الشفاف، والايحاء العميق، واللغة المدهشة،والمفردات الخاصة، وهو لا يتكلف او يتصنع وانما يكتب بما يمليه عليه وجدانه وقلبه.
وفي المحصلة، فان عبد الناصر صالح شاعر يمتلك تجربة ثرية ومكثفة اغتنت في السجن، واستطاع ان يحلق ويسمو في الفضاء الشعري الفلسطيني بما كتبه وانتجه من شعر ملتزم وصادق مليء بحرارة الانفعال، ويندرج في اطار الشعر الواضح والسهل الممتنع والادب المقاوم والرافض للظلم والقهر والاحتلال والاستغلال، الملتصق والمسكون بالهاجس والعذاب الفلسطيني.