

صورة اليهودي في رواية المنفى
العطيلي رواية للفنان التشكيلي الفلسطيني نبيل أبو حمد،صدرت عن دار الساقي في لندن في العام 2002.وكان صدر له من قبل مجموعتين قصصيتين هما: "عبق نساء عرق رجال" (1995) و"الضرب على العصب" (1999).
ويعود الزمن الروائي فيها إلى العام 1948 وما قبله، وما بعده بقليل. وهكذا لا يتطابق فيها الزمنان الروائي والكتابي، فثمة فاصل زمني بينهما مقداره خمسون عاما تقريبا. هنا لا تقص العين الشاهدة، هنا تقص الذاكرة. ثمة ماض يسترجع لحظة الكتابة، بغض النظر إن كان السارد عاش الأحداث أو لم يعشها. إننا أمام سارد غير محدد الملامح، يقص علينا قصة العطيلي، ويتركه أحيانا يروي، كما يترك شخوصه تتحدث وتعبر عن نفسها.
والعطيلي هو مواطن فلسطيني كان يقيم، قبل العام 1948، في حيفا، ويعمل فيها عاملا في شركة، وكان له أصدقاء عرب ويهود، يفقد ساقيه إثر مرور سيارة شحن عليهما، حين كان يلتفت إلى النساء، وهكذا يغدو بلا عمل. ويقترح عليه صديقه اليهودي (حاييم) ان يمارس مهنة التسول، المهنة التي كان اليهود يمارسونها وأثروا من ورائها. وإذ يبدي العطيلي تردده، لأن التسول مخجل، حيث الناس يعرفونه، يقترح عليه (حاييم) أن يتسول في أحياء اليهود في حيفا، وهكذا يفعل العم رضوان. يذهب ليلا إلى أحياء اليهود ويجلس أمام دور السينما، وحين يغادرها زوارها وروادها، يتصدقون عليه ببعض النقود التي يودعها لدى (حاييم)، ويقوم الأخير بتسجيل ما يودعه لديه العطيلي في دفتر خاص، حتى يصل المبلغ إلى 17.000 جنيه فلسطيني.
وتأتي حرب العام 1948، وتشتعل حيفا، ما يجبر العم رضوان على الرحيل، على الرغم من أن (حاييم) كان يحثه، ويحث العرب على البقاء وعدم الهجرة، فالحرب سوف تنتهي، ولا بد من أن يتعايش العرب واليهود معا، بعد رحيل الإنجليز. غير أن هذا لا يتم. وهكذا يغادر العم رضوان إلى لبنان، ويغدو هناك لاجئا يقتات من صدقات الأمم المتحدة، ووكالة غوث اللاجئين، ويمارس فوق هذا مهنة التسول في بيروت.
ويحن العم رضوان إلى نقوده، وحين يعلم أن هناك من يستطيع إعادته إلى حيفا، مقابل مبلغ من المال، لا يتردد في دفعه ولا يتردد في العودة، يساعده في ذلك الأرمني أبو أرتين الذي يعمل سائقا على سيارات الأمم المتحدة التي تتنقل ما بين فلسطين ولبنان.
يعود العطيلي إلى الطيرة، ويزور ابن أخيه سامح الذي لم يغادر في العام 1948، ويقيم في بيته مع ابنته خالدة، ثم يزور صديقه (حاييم) من اجل أن يستعيد أمواله. يرحب حاييم به، ولا ينكر الوديعة، وهكذا يكون مثل السموأل وفيا. غير أن (حاييم) الذي اعتقد أن العم رضوان لن يعود، تصرف بالأموال، فبنى غرفة في بيته وما عاد يملك الأموال. ويعد (حاييم) العطيلي بأمواله، على أن يدفعها له شهريا، ولا يمانع العم رضوان في ذلك، وهكذا يكون عليه أن يزور (حاييم) كل شهر ليأخذ المبلغ المتفق عليه.
تتأزم الأمور بين الاثنين، حين يزور العم رضوان بيت (حاييم) ذات مرة ولا يجده. تستقبله (شولا) زوجة (حاييم) وترحب به، فيم تذهب خالدة ابنته لترى المنزل وما حوله، وحين تقدم له (شولا) العصير يدفعه شبقه إلى الاعتداء عليها، هو المحروم من النساء. وتطرده هذه شر طردة، وتخبر زوجها، فيما بعد، بما حدث، وهكذا لا يعود لاستقبال العم رضوان، وينكر ما لديه من أموال، ما يدفع العطيلي إلى البحث عن سلاح وإطلاق النار على (حاييم) وشولا، ويلقى القبض عليه، ويسجن لفترة طويلة.
الشخصية اليهودية المحورية في الرواية هي شخصية المهندس (حاييم)، وهي شخصية لا تعاني من التعصب أو الاستعلاء، ولا تنظر إلى العرب نظرة احتقار، على العكس من ذلك تدعو إلى التعايش وتقيّم علاقات احترام مع العرب. وحين يُصاب العطيلي ويعاني وتبتر ساقاه يزوره (حاييم) ويقف إلى جانبه، ويقترح عليه أن يمارس مهنة التسول في أحياء اليهود، بل إنه قبل هذا الحدث كان على علاقة ودية مع العرب، فقد كان يأتي بالحلوى من بيته ويأكل معهم، وفوق هذا كله فقد كان يدعو إلى التعايش، وحث أصحابه من العرب، في حرب العام1948، على عدم الهجرة.
وظل (حاييم) يقدر العطيلي ويحترمه إلى أن اعتدى الأخير على (شولا). وهنا بدأ التحول في شخصية (حاييم)، ولم يعد يحترم العطيلي والعرب كلهم، فالعطيلي من طينة واطئة وقليل الأخلاق (ص113)، وكذلك ابنته خالدة، فهي بلا أخلاق ولا عفة، "وأبوك لا بد من أنه يتاجر بعرضك وربما يبيعك للآخرين" (ص113). "أنتما قليلا الأخلاق، فاسدان، متوحشان من عنصر متخلف أصلا، تليق بكما الأدغال الموحشة والبراري، ولا تناسبان هذا العصر أبداً" (ص109).
هكذا ينقلب (حاييم) 180 درجة، ولا يصب جام غضبه على العم رضوان فقط، بل عليه وعلى ابنته خالدة، وعلى العرب كلهم بسبب حادث واحد فقط. وربما لا نستغرب أن يحدث هذا، فثمة مبرر له. وقد حدث الشيء نفسه، ذات نهار، مع كاتب إسرائيلي بارز كان يتعاطف مع العرب، وكتب روايتين بارزتين عن حرب العام 1948، هما "الأسير" و "خربة خزعة". لقد غير صاحبهما (يزهار سميلانسكي) موقفه من العرب مائة وثمانين درجة أيضا في العام 1996، بسبب أحداث تفجير الحافلات في المدنيين، ونعت العرب بأنهم وحوش.
والشخصية اليهودية الثانية في الرواية هي شخصية (شولا) زوجة (حاييم). و(شولا) هنا تختلف عن كثير من النماذج النسوية اليهودية التي أبرزها كتاب عرب في نصوصهم للمرأة اليهودية، وإن كنا لا نعدم وجود نماذج نسوية تشبهها. (شولا) هنا ليست امرأة رخيصة تبيع نفسها، وتسلم جسدها لغير زوجها. إنها حين يعتدي عليها العم رضوان تطرده، وتخبر زوجها، ولا تعود تستقبل العطيلي.
نموذج (شولا) نجد شبيها له في قصة مبكرة للقاص نجاتي صدقي الذي أبرز صورا متغايرة للمرأة اليهودية على أية حال، فهو لم يكن يبرز لليهود صورة نمطية. في قصته "العابث" يقيم عربيان، قبل العام 1948، علاقة مع مهاجرين يهود جدد، ويحاولان استغلال المرأة جنسيا فترفض، وتتصرف معهما بأدب جم، والمرأة هنا تختلف عنها في قصة ماجد كاتب العرائض، حيث توافق الغربية القادمة على العيش مع رجلين: زوجها وماجد.
ونجد صورة إيجابية للمرأة اليهودية أيضا في روايات ناصر الدين النشاشيبي "حبات البرتقال" و"حفنة رمال". ليست المرأة هنا رخيصة تبيع جسدها بسهولة. إنها تؤثر روحها على المتع الجسدية، وتميل إلى قلبها وتتبع خطاه.
وتبدو المرأة اليهودية، في نظر بعض العرب، بخاصة ممن عاشوا تحت الحكم الإسرائيلي، موضع إعجاب واحترام. لماذا؛ لأنها حاربت وانتصرت، فيم انهزم الرجال العرب.
في حوار بين سامح والعم رضوان نقرأ الفقرة التالية الدالة:
" العم رضوان: والله لن أسمح لخالدة بأن تتفرنج، مثلها مثل الأجنبيات أو اليهوديات. أثيرت حفيظة سامح فثار وقد لعب المشروب دوراً في رشق الكلام: ما لهن فتيات الفرنج؟ ثم ما لهن اليهوديات؟ تعرف أن اليهوديات يلبسن الشورت ويحاربن مثلهن مثل الرجال؟؟ وأنهن يزرعن الحقول، ويسقن التراكتورات؟؟ ثم إنهن يصنعن السلاح؟ والست غولدا مائير مساعدة بن غوريون حاكمة البلد. أتدري؟" (ص98). والفقرة السابقة دالة بما فيه الكفاية.
كتب نبيل أبو حمد روايته في العام 2002، والأصح أنه نشرها في هذا العام، ولا أدري بالضبط متى بدأ كتابتها، ومتى انتهى منها؟ والسؤال الذي يثار هو:
– هل اختلفت صورة اليهود فيها عن صورتهم في رواية الانتفاضة التي كتبت في فلسطين في الفترة نفسها؟
لا شك في ذلك. لقد صدرت في فلسطين، ما بين العام 2000 والعام 2007 روايات عديدة أبرزت لليهودي صورة مغايرة ومختلفة اختلافا كبيرا، إذ ركز كتابها على اليهودي المستوطن أو اليهودي الجندي. ولم يكن الاختلاف الفكري والأيديولوجي لأصحابها، ليسهم في تنوع الصورة إسهاما كبيرا. حقا إنه أثر في ذلك، ولكن هذا التأثير كان جزئيا. ذلك أن أكثر الكتاب الذين أبرزوا نماذج يهودية في نصوصهم كانوا وما زالوا، يقيمون في الأرض المحتلة، في أثناء الانتفاضة. وفي هذه الأثناء لم يروا من الإسرائيليين إلا الجندي المدجج بالسلاح، والمستوطن الحاقد الذي يكره العرب ولا يريدهم.
كتبت في أثناء الانتفاضة روايات عديدة أبرزها: "ستائر العتمة" (2001) لوليد الهودلي، وتوجهه توجه إسلامي و"ربيع حار" (2004) لسحر خليفة، وهي كانت قريبة من اليسار، وكانت في رواياتها تأتي على يهودي وإسرائيلي، وتميز بينهما، وكانت تكتب عن يهود يساريين يتحاورون مع فلسطينيين يساريين، و"حجارة الألم" (2005) لأنور حامد، وقد كتبها أصلا بلغة غير العربية هي المجرية، وبطلها الذي هو مؤلفها، يساري يؤمن بالحوار، وبإقامة دولتين. إنه ضد اليهودي المستوطن والعسكري المحتل، لا ضد اليهودي كونه يهوديا، و"لغة الماء" (2007) لعفاف خلف وبطلها فدائي فلسطيني يقاوم الإسرائيليين في أثناء اجتياح نابلس في العام 2002، ويستشهد، وهو يتحدث عن جنود الاحتلال ويرى فيهم أفاعي، ولا تبرز الرواية صورة أخرى لليهود.
وربما تبدو الرواية المختلفة التي كتبت في فترة الانتفاضة، ويبرز كاتبها فيها صورة مختلفة لليهود، هي رواية مشهور البطران "آخر الحصون المنهارة" (2005)، إذ يبرز فيها نماذج يهودية متنوعة، تكره العرب، ولكنها تتعامل معهم، وتتقبلهم مع الأيام، فالتجربة تغير من الآراء المسبقة، وكذلك المصلحة الفردية. العربي غير مرغوب فيه لأنه عربي، ولكنه حين يعمل ويجيد العمل ويأخذ أجرا منخفضا يغدو مقبولا، وحين ينقذ حياة يهودي يغير الأخير من نظرته إليه، وقد يثق به، وإذا ما احتاجت اليهودية من يروي ظمأها، فيمكن أن تتعاطى معه. لكن "آخر الحصون المنهارة" رواية لا يتطابق فيها الزمنان الروائي والكتابي، مثلها مثل رواية "العطيلي"، فالسارد يسرد عن تجربة مر بها في نهاية العام 1987، حين كانت العلاقات بين الفلسطينيين في فلسطين واليهود مقبولة، ولم تكن علاقة متوترة،فلم تكن الانتفاضة الأولى بدأت.
وعلى الرغم مما سبق فإن المرأة في رواية البطران تختلف عن (شولا) في العطيلي. (دوريت) لا تحب العرب وتكرههم، لكن أمها تتقبلهم، إذا ما لبوا لها حاجة. والمرأة في -"العطيلي"- أي شولا- ليست مبتذلة، ربما لأنها لم تعان مما عانت منه سارة في رواية البطران، فإذا كان نسيم يعاني من عجز فإن (حاييم) لا يعاني منه.
علينا ألا ننسى، ونحن نكتب عن اليهود في رواية المنفى وفي رواية الأرض المحتلة تأثير الوضع الذي يعاني منه الكاتب ويعيش فيه أيضا. لهذا حفلت رواية الأرض المحتلة بصورة سلبية لليهود، صورة الجندي القاسي الذي يقتل بلا رحمة، خلافا لرواية المنفى ممثلة هنا في العطيلي.