الاثنين ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

سميح القاسم والمتنبي

ربما تبدو أبرز قصيدة لسميح القاسم وظف فيها الرموز التراثية الأدبية العربية هي قصيدة " انتقام الشنفرى " التي درسها نقاد كثيرون ( أنطون شلحت، مصطفى زين، عادل الأسطة، خالد الكركي ).

ولسميح غير قصيدة أتى فيها على المتنبي. ومن المؤكد أن القاسم قرأ أبا الطيب وأفاد من صوره وتعبيراته وبناء قصائده، بخاصة في أشعاره الكلاسيكية – أي العمودية. والسؤال الذي يثار هنا هو: هل استلهم سميح شخصية المتنبي كما استلهمها شعراء عرب معاصرون؟

في كتابه " الصائح المحكي " صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث " ( بيروت، 1999 ) لم يأت خالد الكركي على هذا، ما يعني أنه لم يلتفت إلى استلهام سميح للمتنبي، علماً بأنه – أي خالد الكركي – تناول في كتابه " الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث "(1989) قصيدة سميح " انتقام الشنفرى " وقرأها وعلق عليها.

ثمة قصيدة لســميح عنوانها " ماذا حدث للمتنبي حين دخل مقهى في شِعْب بوّان " (أ.ك، مجلد2، ص535 )، ويذكر عنوانها بالقصيدة التي مدح المتنبي فيها عضد الدولة وولديه أبا الفوارس وأبا دلف، ويذكر طريقه بشِعْب بوّان، ومطلعها:

مغاني الشِـعْب بالمغانــي
بمنزلة الربيع من الزمـان
ولكنّ الفتى العربي فيهــا
غريب الوجه واليد واللسان
يقول بِشِعْب بوّان حصانـي
أَعَنْ هذا يُسار إلى الطعان

ولعل البيت اللافت فيها للمتنبي، البيت الذي يكرره كل عربي يشعر بالغربة في مكان ما، هو البيت الثاني. وأظن أنه هو الذي أوحى لسميح بكتابة قصيدته، يوم مرّ بتجربة شعر فيها بالغربة، وهو في بلاد أجنبية. وأظن أن الضمير – ضمير الهو – في قصيدة سميح الذي يعود ظاهراً على أبي الطيب، يعود على سميح نفسه.

والقصيدة التي يغلب عليها طابع السرد القصصي تبدأ بوصف الشاعر / السارد، ما يقوم به المتنبي. ينقل المتنبي في القصيدة / الإنسان العربي المعاصر أو سميح، ينقّل خطاه حذراً متردداً عكس حركة السير، لا يحادث الآخرين ولا يطرح التحية عليهم، مع أن لغات العالم كلها تهدر حوله. صدر المتنبي قاتم يتخفى فيه حرف الضاد مثل شيفرة الجاسوس. يذهب هذا إلى المقهى متسللاً ويشعر بغربة عن الآخرين ولا يصدق أن النادل يبتسم له. وحين يحضر هذا له فنجان القهوة وينسحب، يتوحد المتنبي لقهوته ويتحد مع شظاياه، ويرى فيه حوتاً هائلاً يأتي من أعماقه صوت يونس داعياً المتنبي ليدخل أيضاً إلى جوف الحوت، وهكذا يفعل.
وربما تساءل القارئ عن مغزى هذه القصيدة، وما الذي أراده سميح من ورائها. أيريد أن يقول إن العربي المعاصر يشعر في أوروبا بالغربة، كما شعر المتنبي بالغربة في شٍعْب بوّان؟ ربما.

والذي يهمنا أن الشاعر المعاصر لم يحدد موقفاً سلبياً أو إيجابياً من المتنبي. ربما شعر بشعوره فقط، فحين شعر الأول في شِعْب بوّان بالغربة، وألمه أن يكون الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان، شعر أبو الطيب المتنبي المعاصر أيضاً بالغربة في بلاد غريبة، وآثر الاختفاء في بطن الحوت، مثل يونس.
على أن سميح القاسم، لم يكتب قصيدة يستلهم فيها تجربة المتنبي كاملة، كما فعل محمود درويش في " رحلة المتنبي إلى مصر "، وربما يعود السبب في ذلك إلى أنه لم يمر بتجربة مشابهة لتجربة المتنبي، كما مرّ درويش. ( انظر دراستي المفصلة عن درويش في مجلة الشعراء، رام الله، عدد 15، شتاء العام 2001 ).

سيأتي سميح على ذكر المتنبي في قصيدة ظهرت في مجموعة " سأخرج من صورتي ذات يوم " ( عكا، 2000 )، عنوانها " إعلان نوايا " (ص20-26 )، وسيربط المتنبي وامرأ القيس معاً، مشيراً إلى طلب الأخير المساعدة من ملك أجنبي.

في " إعلان نوايا " نصغي إلى أنا الشاعر تتكلم عن علاقتها بالعالم. وحين أقول أنا الشاعر، فلأنه ليس هناك في القصيدة ما يقول إنّ أنا المتكلم هي غير أنا الشاعر. وليس لأنا الشاعر في ذمة العالم غير موته مرتين، وغير موته وانبعاثه. وليس للعالم عنده أي دين، غير ما يضمره الشاعر من شك وما يعلنه من حزن وحسرة، وغير ما ينزفه القلب وما يعزفه الحب وما ينسفه الرعب.
ويعترف أنا المتكلم بأنه آخر أبناء عشيرة عربية انتهت في قبضة الرومان والفرس أسيرة، عشيرة قضت فوق الشعارات وما بين البيانات ومن تحت الخطب، عشيرة ذهبت فيمن ذهب، اسمها: قيل ... " عرب " (ص22).

ويستطرد أنا المتكلم مفصحاً عن أحواله، فهو مغتسل من وسخ السيرك وفسق الصياغة في مواخير البلاغة. إنه لا يشارك في اللعب، وهو يرفض أن يستر عريه أي ثوب غير ثوبه، ويسأل ربه ألا يقابله إذا جاء بثوب مستعار، وهنا يأتي على ذكر المتنبي، مفصحاً عن رأيه فيه:

" وأنا أرفض تهريج أخينا المتنبي
ورياء المتنبي
ونفاق المتنبي
ولجوء الملك الضليل والوغد امرئ القيس
إلى أقرب غربي " (ص23، 24 )
ويفصح عن علاقته بهذين:
" نحن من نبع
ولكنا افترقنا .. من مصب لمصب " (ص24 ).

ويخاطب أنا المتكلم أصدقاءه – إن يكن له أصدقاء – موضحاً أنه لا يتقن الرقص احتفالاً بسقوط الشهداء، فالصفقة تاريخ وشعب وبلاد ومصائر.
هنا يتضح موقف أنا المتكلم من المتنبي وتتضح الصورة التي يرسمها لنفسه وللمتنبي أيضاً. وإذا كنا رأينا الصورة التي أبرزها أنا المتكلم لنفسه، فقد رأينا أيضاً بوضوح، من خلال النص الشعري، الصورة التي يرسمها للمتنبي: إنه مهرج ومراء ومنافق. والخلاف ليس خلافاً شخصياً، أو على أمر تافه. إنه خلاف على تاريخ شعب وبلاد ومصائر، يبدو أن المتنبي، كما يقول أنا المتكلم، يتاجر بها، في حين يرفض أنا المتكلم نفسه هذا، لأن حبه لبلاده كبير:

وأنا أشهر حبي
مرة أخرى
شهودي الخلق والخالق
في عرس دمي أشهر حبي
لشبابيكي وأشجاري وأنهاري وشعبي
ولأطفالي وموالي وآمالي ودربي "(ص25)

وربما وجب أن يتساءل المرء هنا عن المغزى الذي ترمي إليه هذه القصيدة. من هو المتنبي فيها؟ هل هو أبو الطيب الذي عاش في القرن الرابع الهجري؟ وهل هذا هو رأي سميح القاسم فيه؟ أم أنه شاعر معاصر باع بلاده وشعبه وأشجاره التي لم يبعها أنا المتكلم؟

ومن المؤكد أن امرأ القيس غدا في الشعر المعاصر رمزاً للشاعر أو المثقف الذي يطلب النجدة من الأجانب، وهذا سلوك لا يرضى عنه سميح نفسه الذي هجا المثقفين العرب في الغرب، مؤثراً البقاء في بلاده ( انظر قصيدة سميح في المجموعة نفسها: " فراقية اللاجئين السياسيين في مقاهي أوروبا، ص104 ).
ظاهر اللفظ والعبارة يقول إن المتنبي مهرج ومراء ومنافق، وقد يكون هذا رأي سميح فيه، وربما يقصد شاعراً آخر. وعموماً فإن هذا الرأي برز في نماذج أدبية عربية معاصرة مثل قصة زكريا تامر " نبوءة كافور الإخشيدي "، وهو رأي مغاير لآراء شعراء كثيرين مجدوا الشاعر وبجلوه وأحلّوه مكانة متميزة.

ملاحظة: أبدى سميح رأيه في المتنبي مراراً، في مقابلات عديدة، وذهب إلى أن هناك صلة قرابة بينهما. حول ذلك انظر:

1- مجلة الشعراء، ع7، شتاء 1999. ص125، ص144.

2- إبراهيم نمر موسى، آفاق الرؤية الشعرية، رام الله، 2005. ص138-139.

3- وانظر: www. Almustaqbal.con المقابلة التي أجريت مع سميح ونشرت في ثقافة وفنون ص16، الاثنين، 22/11/2004، العدد 22. وفيها يقول سميح: أنا أعرف وجع المتنبي ومحنته حين صدر عنه هذا الكلام.

وهل تصدر عن هذا الوجع؟ نعم، ولكن بقصيدتي وليس بصيغة المتنبي أو بقصيدته. صيغتي وقصيدتي أرقى. المتنبي ليس بقرتي المقدسة، أنا أحترمه شاعراً ولا أحترمه راقصاً بين الهجاء اليوم والمديح غداً. لا أحب هذه السمة وقلت: وأنا أرفض عهر المتنبي، ورياء المتنبي

عادل الأسطة

نابلس 28/4/2006


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى