

سحر خليفة في ربيع حار: حضور الراوية وغياب الكاتبة
تواصل سحر خليفة في "ربيع حار" (2004)، الكتابة عن الواقع الفلسطيني في الضفة الغربية، وتعد روايتها هذه اســتمراراً لرواياتها السابقة "الصبار" (1976) و "عباد الشمس" (1980) و "باب الساحة" (1990) و "الميراث" (1997).
في "الصبّار" كتبت سحر عن واقع الضفة بعد هزيمة حزيران 1967، وناقشت أبرز القضايا في حينه، ومنها العمل في مصانع دولة إسـرائيل وعدمه، والكفاح المسلح وجدواه، وفي "عباد الشمس"، وهي الجزء الثاني من "الصبار" أتت على الفصائل الوطنية وما آلت إليه في نهاية السبعينيات من القرن 20، وبدأت ثنائية الرجل/ المرأة تحضر في أعمالها، ولم تغب عنها حتى اللحظة. إن مطالبة سحر في "عباد الشمس" بحقوق المرأة، على قدم وساق مع الرجل، كانت سمة بارزة في الجزء الثاني. وقد عززت هذه الثنائية في روايتها الرابعة "مذكرات امرأة غير واقعية" (1986)، هذه التي تراجع فيها الموضوع الوطني لصالح الموضوع الاجتماعي، وتحديداً لصالح المرأة وهمومها.
ولما كانت الانتفاضة (1987) عادت سحر وكتبت عنها، ليبرز الموضوع الوطني من جديد، غير أنها لم تغض النظر عن هم المرأة ومعاناتها، حتى في الانتفاضة. ولقد ذهبت سحر إلى ما هو أكثر، إذ رأت أن هموم المرأة، إبان الانتفاضة، قد زادت، فهي لم تعد تطبخ وتنظف المنزل وترعى الأولاد وتعمل، إذا غاب الزوج، وتحبل وتلد، وإنما أخذت تشارك في النضال ومقاومة الاحتلال.
وأتبعت سحر روايتها هذه بأخرى هي "الميراث" (1997)، ناقشت فيها الثنائيات التي تشغل بالها، منذ روايتها الأولى، "لم نعد جواري لكم" (1974)، ومنذ رواياتها اللاحقة، ثنائية المرأة/ الرجل، وثنائية الأغنياء/ الفقراء، وثنائية اليهود/ الفلسطينيين، بل وثنائية الجيل القديم/ الجيل الجديد. وناقشت في "الميراث" اتفاق أوسلو وما آل إليه.
وقبل "ربيع حار" أنجزت سحر رواية "صورة وأيقونة وعهد قديم" (2002)، وهي رواية طبعتها في بيروت، ولم تصدر لها، في الأرض المحتلة، طبعة خاصة، خلافاً لروايتها الأخيرة.
وتأتي سحر في "ربيع حار" على انتفاضة الأقصى، وتطنب في الكتابة عن ربيع 2002، حيث اجتاحت القوات الإسرائيلية مدن الضفة الغربية وحاصرتها، وحولت الضفة كلها إلى جزر منعزلة. ولا يعدم المرء الكتابة عن الثنائيات نفسها التي برزت في أعمالها السابقة. هنا، كما في "الميراث"، تُبرزُ أصواتاً عديدة تنتقد السلطة، ولكنها، في الوقت نفسه، تترك آخرين يدافعون عنها. ولربما يجدر البحث عن صوت المؤلفة نفسها، ولا يجد المرء صعوبة في تحديده، علماً بأن صوت الساردة/ الكاتبة يختلط في أحايين كثيرة مع صوت الشخصيات الروائية، لدرجة يتساءل معها القارئ: أين هو صوت سحر؟ أين هو صوت الشخصيات؟ لكأن الفاصل بينها يزول، ويبدو صوت الساردة هو صوت بعض شخصياتها، أو صوت بعض الشخصيات هو صوت سحر. والأصوات التي تتداخل مع صوت الساردة، أو صوت الساردة الذي يختلط مع صوت الشخصيات، هو الصوت الساخر الناقد للذات الفلسطينية، للسلطة الوطنية ولاتفاق (أوسلو) وما جره على الفلسطينيين من مآس.
"ربيع حار" تؤرخ، إذن، لمرحلة لاحقة لتلك التي توقفت أمامها سحر في "الميراث"، وهكذا تكون "الصبار" و "عباد الشمس" و "باب الساحة" و "الميراث" و "ربيع حار" سلسلة من الأعمال التي تأتي على واقع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقطاع منذ العام 1967 وحتى العام 2004. كل رواية من الروايات هذه "ترصد الواقع في زمن محدد، ويكاد الزمن الروائي لها يكون متسلسلاً، لتشكل الروايات فيما بينها، رواية واحدة من حيث الزمان والمكان، وإن اختلفت أسماء الشخوص. بطل الروايات كلها الضفة وسكانها، مكانها واحد، وزمانها هو زمن الاحتلال منذ العام 67 حتى اللحظة التي توقفت أمامها "ربيع حار"، ولا يفصل بينها، إلاّ فترات زمنية لم تأت الكاتبة عليها، مثل الفترة ما بين 1980 و 1988، والفترة ما بين 1997 و 2001. لكأن الروايات الخمس خماسية تذكرنا بخماسية عبد الرحمن منيف "مدن الملح"، أو بثلاثية نجيب محفوظ المشهورة."
وربما يكرر المرء، وهو يكتب عن "ربيع حار"، ما قاله عن روايات سابقة للمؤلفة. ثمة قص لا يخلو من عنصر التشويق، وتلك هي ميزة سحر من ناحية فنية. إذ ما أن تبدأ بقراءة الرواية حتى تجد نفسك تشدك الأحداث إلى أسطر الرواية الأخيرة. أنت أمام راوٍ يعرف كيف يروي، راو لا يدخل السأم إلى قلبك، فهو يمسك بتلابيب الحكاية. غير أن هذه الميزة هي من عناصر الحكاية تنقلب إلى ضدها حين تغدو الحكاية رواية، وحين يغدو القص كتابة، بخاصة إذا كنت تمتلك اللغة العربية. هنا ستشعر أنك لست أمام كاتبة. ولست أمام رواية تُقرأ، ويفخر المرء بلغتها. إن سحر على الرغم من أنها تكتب منذ ثلاثين عاماً ونيف لم تدرب يدها، ولم تثقف نفسها، لتغدو كاتبة. ويستطيع المرء أن يدرك هذا بسهولة، حين يقارن بين أعمالها وأعمال غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، وربما تحتاج اللغة، في أعمال سحر، إلى دراسة موسعة.
وما كان يلح علي، وأنا أقرأ الرواية، هو هاجس اللغة. ومن المؤكد أنه لم يغب عن ذهني مقولات (ميخائيل باختين) بهذا الشأن، فثمة لغة سرد، وثمة لغة شخوص تتعدد بتعدد المستوى الثقافي لها، فالنص الروائي لغةً يحتمل هذا التعدد، خلافاً للشعر الغنائي الذي يبرز فيه مستوى لغوي واحد، هو المستوى اللغوي للشاعر، وهنا نقرأ شاعرية فيها مجاز واستعارة، لغة تغاير لغة الناس الآخرين، لأن لغة الشعر هي لغة انزياح تحتمل فيها المفردات مدلولات مغايرة لمدلولها القاموسي. عدا أن الشاعر يدخل مفردات غيره في مياه نهر (ليثي) لتغدو لغة واحدة. أما الناثر، وتحديداً الروائي، فهو لا يعكس مستوى لغوياً واحداً، لأنه يظهر في نصه المثقف والعامل، المتعلم والأمي، وهو فوق هذا يكتب عن الأستاذ الجامعي وعامل البناء والحداد وسيدة المنزل والطفل الصغير والسائق وبائع الخضار، وهؤلاء ليسوا ذوي مستوى لغوي واحد، عدا أنهم يســتخدمون مفردات خاصة بمهنهم ووسطهم الاجتماعي. والسؤال الذي يثيره المرء، وهو يقرأ "ربيع حار" هو: هل عكست الرواية هذا التعدد اللساني؟
ومن المؤكد أن الإجابة ستكون، في الأعم الأغلب، لصالح سحر خليفة، فثمة تعدد لساني في النص، وليس الاعتراض هنا. إن الاعتراض هو على لغة السارد، هذا السارد الذي يبدو غير محدد الملامح، ومن هنا نفترض أنه الكاتبة – أي سحر خليفة، ولأن هذه كاتبة فقد نقد كان يجدر أن تكون لغتها مغايرة للغة الشخوص الآخرين، وكان يجب أن نقرأ لغة سرد تليق بكاتبة أصدرت غير رواية. ربما نتذكر هنا ما أورده الجزائري د. عبد الملك مرتاض في كتابه "في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد" (الكويت) (1998)، إذ يميز بين لغة كاتب وأديب، ويرى أن أكثر الكتاب العرب ليسوا أدباء من ناحية اللغة، فهم لا يملكون لغة الأدب، وأنهم "يسوقون حكايات يسجلونها بلغة بسيطة، وفي أطوار كثيرة متعثرة، وهم على كل حال لا يملكون إلاّ أن يأتوا ذلك.. بينما نظفر بمجموعة قليلة من كتاب الرواية الذين يمتلكون اللغة العربية ويتعشقون جمالها، ويحرصون على الاستعارات السليمة بها.. وهؤلاء هم الأدباء" (ينظر، ص 132 و 133).
وكلام مرتاض السابق خاص بلغة السرد، لا لغة الشخوص. فماذا عن لغة السرد في رواية "ربيع حار"؟ قبل الإجابة عن السؤال أود أن أشير إلى أن الدارس للمذاهب الأدبية قد يلتمس لسحر عُذراً، فهي أديبة تكتب عن الواقع، ما يدرج أدبها تحت مصطلح الواقعية النقدية، إنها من ناحية لا تقدم صورة وردية للواقع، وغالباً ما تنتهي أعمالها نهايات تشاؤمية، عدا الصورة القاتمة التي تبرز فيها، وما دامت تدرج تحت مذهب الواقعية النقدية، فإن لغتها لن تكون لغة الكلاسيكيين، وهكذا لا تنشد هي نفسها – أي سحر – لغة أخرى غير لغة الواقع. وعليه فإنها قد تقول، حين تقرأ هذا المقال، ما قالته بطلة روايتها "عباد الشمس" في الأستاذ وديع: العالم يغرق وأنت تهتم باللغة، وقد تسخر أيضاً، كما سخرت بطلتها هناك.
وقبل التدليل على المستوى اللغوي في "ربيع حار"، وتحديداً لغة السرد، أود أيضاً الإشارة إلى أنني قد لا أضيف جديداً، إلى ما كتبته، في هذا الجانب، عن روايتها "باب الساحة" (انظر كتابي: قضايا وظواهر نقدية في الرواية الفلسطينية، عكا، 2002، ص 138 وما بعدها)، والسبب في هذا يعود إلى أن الكاتبة لم تكتب بمستوى لغوي آخر، مغاير لما بدا هناك، وأستطيع أن أقتبس عشرات الأمثلة من الروايتين لأبين أن لغة السرد واحدة متشابهة إلى أبعد حدود التشابه، ما يدل على أن السارد، في الروايتين، هو سحر خليفة نفسها، وهكذا حين يكتب الدارس عن مستوى لغة السارد في أعمالها، إنما يكتب عن المستوى اللغوي لسحر خليفة، وسيقول المرء باطمئنان إنه أمام لغة راوٍ، لا أمام لغة كاتب.
ولعل ما يجدر ألا يغيب عن الذهن، في أثناء تناول الجانب اللغوي في الرواية، الملاحظة التي أوردتها سحر في نهاية روايتها "ربيع حار". تكتب سحر:
"أعترف بفضل سيدات حوش العطعوط في نابلس القديمة اللواتي فتحن لي ذاكرتهن كنافذة أطلعت منها على التجربة ووقع الأحداث، فلولا رواياتهن المفعمة بالتفاصيل وعمق الإحساس لما تمكنت من التقاط الجو وتصوير المأساة".
ويبدو أن الكاتبة تأثرت بمستوى سيدات حوش العطعوط اللغوي، ولم تعمل فيه مبضعها، كما فعلت مثلا بكتابات وشروحات رشيد هلال، حيث أجرت عليها بعض التعديلات كي تنسجم مع النص وتندمج فيه.
وربما يفاجأ قارئ نسختي الخاصة من "ربيع حار" لكثرة الملاحظات التي دونتها على صفحات الرواية، فيما يخص الجانب اللغوي، وسأختار من الرواية النموذج التالي:
"هز رأسه ولم يجبها. كان يفكر بأن هذه البنت السقعة بالبنطلون والشعر القصير وحذاء الرياضة والكنزة ليست تحفة، وليست فلتة، فهي لا أكثر من رعناء مخترقة أو أية صيغة من الصيغ ذات الأبعاد الملغومة لأنه يعرفها ويعرفهن فهن كثيرات في الجامعة وفي الكليات والمنتزهات يلبسن البنطلون والضيق ويحملن الكتب حتى نعرف أنهن متعلمات وبنات ناس ومحترمات وهن لا أكثر من مخروقات، الواحدة منهن لا تنفع إلاّ لكذا، ورغم ذلك، فعليها منافس كالخنافس. بنات منفوخات كالبالونات وفقوس الحمار إذا نكشته مجرد نكشة يفقع ويرش ويطرطش. لكن يا عيني على الجعصة! الله أكبر" (ص103).
وهذا مثال واحد، وهناك أمثلة كثيرة يخرج المرء بعد قراءتها إلى أن لغة السرد تعاني من ضعف بناء الجملة، واختلاط العربية بغيرها، ويصل هذا الضعف إلى درجة لا تختلف فيها لغة السارد عن لغة الشخوص، المثقفين. وهكذا لا تغدو الرواية ذات تعدد لساني يرتبط بالتعدد الاجتماعي والثقافي في المجتمع.
إن قارئ أعمال سحر، ومنها "ربيع حار" يرى نفسه غالباً أمام مستوى لغوي تذوب فيه الفوارق. لكأن سحر هنا مثل الشاعر الغنائي معكوساً. وبدلاً من أن تدخل لغة شخوصها في نهر لغة الكاتب – مع أن هذا ليس مطلوباً في الرواية – نجدها تدخل لغتها في نهر لغة الآخرين، لكأنه لا فرق بين لغتها ولغة نساء حوش العطعوط.
حين فرغت من قراءة الرواية تذكرت رأي الأديب الجزائري الطاهر وطار في سيرة محمد شكري "الخبز الحافي".
تعد "الخبز الحافي" من أكثر السير الذاتية في الأدب العربي قراءة وشهرة وانتشاراً وترجمة، ولا تختلف أعمال سحر فيما يخص الشهرة والترجمة، وكما باضت "الخبز الحافي" لصاحبها ذهباً، فقد باضت روايات سحر لها ذهباً أيضاً.
وحين يلتفت المرء إلى لغة "الخبز الحافي" قد لا يعجب بها – أي باللغة -، وإن كان سيعجب بأشياء أخرى. والكلام نفسه يقال عن نصوص سحر، ولكن ماذا لو التفتت سحر إلى جانب اللغة، كما هو الحال في روايات "أحلام مستغانمي" الجزائرية؟ أما كان هذا سيجعلها تمتاز بميزات جمالية أخرى!؟
نابلس
مساء الجمعة وصباح السبت
3-4 حزيران يونيه 2005