

رؤية مبكرة
في مطولته " وتريات ليلية " يقول مظفر النواب مخاطباً الحكام العرب:
" فإذا أجن الليل
تطق الأكواب، بأن القدس عروس عروبتنا
ويتابع:
" القدس عروس عروبتكم!؟!فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتهاوسحبتم كل خناجركم، وتنافحتم شرفاًوصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض؟!
وكان مظفر كتب القصيدة بعد أن وقعت القدس تحت الاحتلال، وبعد محاولات إحراق الأقصى. ولما رأى ما رأى من عجز عربي لا يعيد القدس والأقصى، شتم الحكام، منطلقاً من منطلق أن دكة غسل الموتى تتحرك، أما أنتم – والخطاب موجه للحكام – فلا تهتز قصبة. وبعد أسطر قليلة لم يستثن الشاعر أحداً. لم يستثن أحداً من الحكام ولا من الجماهير، فالأخيرة تداوم في قبو مؤسسة الحزن. وبلغ به الأمر أنه لم يستثن نفسه، فقد استخدم الضمير نحن، وهو ضمن هذه النحن.
وقبل أن تضيع القدس نبّه الشاعر عبد الرحيم محمود، ابن قرية عنبتا، الأمير سعود بن عبد العزيز، عندما زار فلسطين، ومر بقرية الشاعر، نبهه من ضياع الأقصى، فقد وجه خطابه إلى الأمير الذي كان قاصداً القدس قائلاً:
المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه
ولعل الشاعر الشهيد كان ذا رؤية مبكرة في هذا الشأن، فلم تمر عقود حتى احتل الإسرائيليون المدينة، وبدأوا تهويدها.
هجاء النواب الحكام العرب وتذكيرهم بأنهم لم يفعلوا شيئاً من أجل إنقاذ القدس، ولفتة عبد الرحيم محمود لم تكونا الصرختين الوحيدتين، فمنذ سبعينيات القرن المنصرم وكتابنا يكتبون عما يجري على أرض الواقع. يلفتون الأنظار، وربما اقترحوا رؤى وحلولاً، وربما طغى على نصوصهم نزعة تحريضية أيضاً. ومنذ احتلت القدس وأبناؤها وأبناء فلسطين يحاولون، قدر ما استطاعوا، الدفاع عن المدينة. بالمظاهرات والاعتصامات والقبض على الجمر من خلال الصمود في البلدة القديمة وتحمل ما لا يحتمل من مضايقات ربما كان أسوأها مجاورتهم لمستوطنين لا يُجاورون، هدفهم تخريب الأخلاق وإيذاء المشاعر وإفساد الذمم.
وربما لم ينس أي منا أن ما نعاني منه، منذ 28/9/2000، من حصار ومضايقات وحواجز وبطش وسجن وتقتيل كان بسبب زيارة ( شارون ) للأقصى. وإذا كانت الزيارة أدت إلى ما أدت إليه، فإلام ستؤدي الحفريات؟ ربما وجب أن نهيئ أنفسنا لأعوام قاسية وصعبة!
وربما تساءل بعضنا: ما ذا عسى الدول العربية تفعل؟ تلك التي لها علاقات مع الدولة المصونة، وتلك التي لا علاقات لها معها. وكيف ستكون ردة فعل الدولة العبرية وتفاعلها مع الدول العربية؟
في العام 1979 كتب القاص أكرم هنية قصة عنوانها " بعد الحصار .. قبل الشمس بقليل " ونشرها في مجموعته " السفينة الأخيرة ... الميناء الأخير "، وقد تخيل فيها أن الصخرة انسرقت، وعليه رصد آراء الناس فيما يجري، فيما ستفعله الدول العربية، وما سيقوم به أهل القدس به. سأقتطف هذه الآراء من القصة حول سبب السرقة وحول ردود أفعال العرب:
- ربما يريدون إقامة مستوطنة جديدة مكانه ( أي الأقصى ).
– أو بناء حي جديد.
– ربما وجدوا " مخربين " فيه فأخذوه بمن فيه.
– ربما اختطفته طائرات عربية ونقلته إلى إحدى العواصم ليتخلص العرب من الشعور بالحاجة لتحرير القدس والمقدسات.
– يجب أن نعتصم الليلة في الحرم والقيامة خوفاً من أن يسرقوا شيئاً جديداً.
– سيعقدون قمة إسلامية.
– وعربية.
– وسيعلنون الجهاد المقدس.
– ويطلبون اجتماعاً عاجلاً لمجلس الأمن.
– وستنهمر البيانات والتصريحات كالمطر.
– سيلصق الإسرائيليون التهمة بمجموعة من المختلين عقلياً ...
وأنا سأتساءل: هل ستكون ردود أفعال العرب والمسلمين مختلفة عما تلفظ به الشخوص / الناس في القصة، ورصده الكاتب؟
وسأتابع نشرات الأخبار، وسأقرأ ردود أفعال بعض الدول العربية، وبعض الجماعات الإسلامية فيها: سأقرأ خبراً يقول إن دولة عربية استدعت السفير الإسرائيلي لديها للاستفسار منه عما يجري، وخبراً آخر تطلب فيه جماعة إسلامية من دولتها قطع علاقتها وطرد السفير الإسرائيلي. ومن المؤكد أنني لن أسمع خبراً يقول: هاجمت الجيوش العربية الدولة العبرية حتى تمنعها من مواصلة الحفريات. هل أقول للبيت رب يحميه أم أننا بدأنا انتفاضة ثالثة؟!