الأربعاء ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

درويش في جديده: سؤال الرحل

كم مرة كرر محمود درويش في كتابه الجديد "في حضرة الغياب" (2006) السؤال التالي: لماذا نزلت عن الكرمل؟ ولا أدري إن كانت هناك ضرورة ما لإحصاء هذا. لقد تكرر السؤال مراراً، وكان يتكرر في حياة الشاعر كلما مرّ وهو في المنفى بظروف صعبة قاسية قاهرة. ولما كان درويش؛ الراوي والمروي والرواية، يستحضر نفسه في مراحل مختلفة، منها مراحل تعود إلى ما قبل الخروج وأخرى تعود إلى ما بعده وثالثه تعود إلى ما بعد العودة إلى رام الله، فإن السؤال سيلح عليه في المرحلتين الثانية والثالثة، في الثانية القسوة حياته في المنفى، وفي الثالثة لأنه عاد ورأى ما رأى واجتمع بمن اجتمع وعانى ما عانى، وبالتالي فإنه سيسأل نفسه هذا السؤال، لأنه لو لم يرتكب الخطأ، لما وقع في أخطاء. وربما ما وجب عليه أن يعالج الخطأ بالخطأ.

لماذا نزلت عن الكرمل؟ يخاطب درويش نفسه. إنه هنا المخاطب – بكسر العين – والمخاطَب – بفتحها – أي الراوي والمروي عليه. وكان من قبل يُسأل من الآخرين. لم يكن هو الذي وجه السؤال إلى نفسه غالبا، وربما وجهه إلى نفسه وكتم الأمر. كان الآخرون مهووسين بهذا السؤال. كأنما ارتكب جريرة كبيرة بحق نفسه. وربما يتذكر كلنا – قراء الشاعر ومن يتابعون الدراسات التي تكتب عنه – مقالة ريتا عوض: خروج الشاعر قتل له أم بعث له؟ وربما تذكر أيضاً مقالات الهجاء التي دبجت عن رحيله، من رفاقه في حلب – حيفا، ومن غيرهم. هل تذكرون قول الشاعر في قصيدة رحلة المتنبي إلى مصر؟: ولكن الرفاق هناك في حلب أضاعوني وضاعوا!.

في منتصف الثمانينيات، في القدس، دُعي المرحوم إميل حبيبي إلى ندوة ليتحدث فيها عن تجربته، وكنت مشاركاً فيها بالحضور. يومها خاض رفاق الحزب الشيوعي في قضية محمود درويش، وسألوا إميل عن رأيه في الأمر. وكانت العلاقات بين الشاعر وأدباء الداخل تتحسن، بعد أن ساءت بسبب الرحيل. وربما، دون أن أعرف درويش، وجدتني أدافع عنه. ربما لأنني كنت أقرأ شعره وأرى فيه شاعر فلسطين، وما زلت. وربما كان كثيرون يفاجأون بموقفي: لو لم يهاجر/ يرحل لربما ظلت تجربته محدودة. لقد أفاد من تجربة المنفى وقال شعراً لم يقله سواه. خسرناه، في الداخل، شخصاً وربحنا شعراً وطنياً ما كان يمكن أن يبدعه.

وسؤال الرحيل الذي يلح على الشاعر في نصه الجديد تكمن بذرته في أشعاره المبكرة، ولا عجب، فدرويش يستحضر أزمنة عديدة في "في حضرة الغياب"، منها زمن ما بعد العام 1970، الزمن الذي بدأت فيه تجربة المنفى. وإذا كان زمن كتابة النص لا يتطابق والأزمنة المستحضرة، الأزمنة الغائبة، فإن دارس درويش، يمكن أن يطابق بين كل زمن مستحضر وما أنجزه في حينه من مقالات وقصائد، وهكذا يكون أقرب ديوان إلى سؤال: لماذا نزلت عن الكرمل؟ هو ديوان " محاولة رقم 7 "(1974).

السؤال المعذب في النص هو السؤال المعذب في قصيدة "النزول من الكرمل"، وفيها يعبر درويش عن غربته في العالم العربي: "حين دخلت الجامع الأموي تساءل أهل دمشق: من العاشق المغترب؟" وفيها يحن حنيناً قاتلاً إلى الكرمل:

"أحب البلاد التي سأحب

أحب النساء اللاتي أحب

ولكن غصنا من السرو في الكرمل الملتهب.

يعادل كل خصور النساء

وكل العواصم".

يليه ديوان "أعراس" (1977). في الديوان الأخير يكتب درويش قصيدة رثاء في راشد حسين الذي توفي في نيويورك في ظروف غامضة. يذكر درويش أنه التقى وراشدا في مطار القاهرة، وعبر كل منهما عن عدم رضاه لرحيله. لقد شعرا بغربة كبيرة في العالم العربي، حتى أن راشدا رأى في الزنزانة في الناصرة فضاءً واسعاً أوسع من العالم العربي كله:

"والتقينا بعد عام في مطار القاهرة

قال لي بعد ثلاثين دقيقة:

ليتني كنت طليقاً في سجون الناصر"

يتكرر السؤال: لماذا نزلت عن الكرمل؟ في كتاب "في حضرة الغياب" تكراراً لافتاً، وإذا كان درويش عبر في أشعاره عن ندمه، وعبر في رسائله عن رغبته في العودة، حتى لو سجن: بدي أعود، فإنه الآن يقر ويعترف بأنه أخطأ يوم الرحيل، يوم غادر فلسطين. وثمة أسئلة أخرى يثيرها الكتاب!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى