«بويا» وحميمية الكتابة السردية عند الناشئة
قبل البدء: المدرسة حاجة وليست ترفا يمكن الاستغناء عنه
لا أحد ينكر الأدوار التي تؤديها المدرسة في المجتمع بمختلف أبعادها واتجاهاتها، ولست هنا في مقام بسط هذه الأدوار دفاعا عن المدرسة، لأنني ببساطة لا يمكن أن أتصور أن هناك من يقف ضد ضرورة وجودها، وإن حدث ووقع أن يوجد من يقف في مواجهة هذا الوجود، فإن ذلك سيكون ضربا من العبث بمصير المجتمع.
ولعل أكثر من يستشعر الحاجة إلى المدرسة ويتملى في أهميتها تلك المجتمعات التي تعيش الحروب فتغلق فيها المدارس، بل إنه قد تبدى للعالم أجمع الأثر السلبي البيّن لهذا الإغلاق زمن الحجر الصحي أيام جائحة كورونا، فلم يكن التعليم عن بعد، خارج أسوار المدرسة، بالفاعلية نفسها التي تضطلع بها أقسام التدريس وساحات المدرسة وملاعبها.
لن أخوض في عرض منافع المدرسة في مستوياتها المعرفية/ الثقافية والمنهجية والقيمية، لأن ذلك مبثوث في البرامج الدراسية في مختلف المواد بجميع المستويات التعليمية، ولكن ما يمكن استحضاره، في سياق الاحتفاء بالمنتج الثقافي التلميذي كتاب "بويا"، هو أهمية الكتابة، وأخص هنا بالذكر الكتابة التلميذية ودورها في الصناعة الثقافية على المدى البعيد داخل المجتمع.
1- مقتضيات تعلم الكتابة التعبيرية
"الكتابة صناعة شريفة، من خواص الإنسان التي يُميَّز بها عن الحيوان (...) وخروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم".
القول لابن خلدون، منذ زمن ولّى، يُعلي فيه من شأن الكتابة ويعتبرها مما يتميز به الإنسان ويختص، ويؤكد أنها لا تتحقق إلا بالتعليم. من هنا، لا بد من الإشارة إلى جملة من المحددات التي تصير فيها الكتابة صناعة تدرك بالتعلم والممارسة، أستهدف من خلالها الإشارة إلى مقتضيات تعلم الكتابة التعبيرية بالنسبة لتلميذات وتلاميذ الثانوي:
أ- القراءة قبل الكتابة: لا تتم الكتابة من فراغ، وإنما يتطلب هذا الفعل تراكما معجميا وأسلوبيا ومعرفيا عبره تتحقق القدرة على ممارسة صنعة الكتابة، وتحقق هذا الشرط يقترن بفعل القراءة، ومن ثمة فاكتساب هذه الصنعة لا يمكن أن يكون بمعزل عن القراءة، ولذلك ستكون الكتابة مرحلة لاحقة للقراءة، أي أن الإنتاج الكتابي هو وليد تجربة التلميذ (ة) القرائية.
ب-الكتابة بوصفها موهبة: وهي تتعلق بخاصة التلاميذ الذين نشؤوا في بيئة تمارس فيها الكتابة باعتبارها إنتاجا فكريا، فبدؤوا بمحاكاة الكُتاب الذين يقرؤون لهم منذ سن مبكرة إلى أن استوت لديهم موهبة الكتابة وتحقق لهم أسلوبهم الذي لا يمكن أن يتكرر عند شخص آخر.
ت-الكتابة بالتقليد والمحاكاة: الموهبة نفسها أعلاه تصير كذلك حينما يتحقق الأسلوب الكتابي الخاص، أما نشوؤها بشكل فطري ودون اكتساب فيظل ضربا من التحامل؛ وإنما تتحقق الموهبة بالمحاكاة؛ فعلى التلميذ (ة) أن يمارس الكتابة بتقليد ما يقرؤه عن كتاب آخرين، حيث سيكون أسلوبه التعبيري في البداية مشابها لأسلوب الكاتب الذي يقرأ له، غير أنه سرعان ما سيصنع لنفسه طرائقه التعبيرية الخاصة التي تميزه وتجعله يتفرد عن غيره.
ث-الكتابة والمعرفة بقواعد اللغة: قد تكون صعوبة إدراك القواعد اللغوية وفهم ضوابطها بما تتضمن من شروط في الاستعمال اللغوي، وما تتخلل هذا الاستعمال من استثناءات، سببا مباشرا في التعثرات التي يعانيها التلميذ على مستوى الإنتاج الكتابي، وهو ما قد يؤدي إلى نفوره من الكتابة؛ خوفا من الخطأ في التعبير الكتابي السليم الذي لا يقف عند حدود استعمال قواعد اللغة الصرفية والتركيبية والأسلوبية التي تظهر في التعبير الشفهي، وإنما تضاف ضوابط أخرى كتابية، منها تلك التي لها علاقة مباشرة بقواعد الإملاء وعلامات الترقيم.
تبعا لذلك، سيكون من المفيد ترك هامش من الخطأ للتلميذ في استعمال قواعد اللغة كتابيا، مع ضرورة تقويم تلك الأخطاء؛ ولعل ذلك ما يشكل مهمة ديدكتيكية تفرض على الأستاذ التدخل للحفز على الكتابة أولا، ثم تقويم المكتوب وتصويبه بما يحض التلميذ لاحقا على الكتابة، ويجنبه أيضا تكرار الأخطاء نفسها.
ج- الكتابة للذات عن الذات: أفضل ما يمكن أن يجد فيه التلميذ نفسه قادرا على الكتابة فيه من المواضيع التي يروم الكتابة عنها: ذاتُه؛ ذلك أن المعرفة بالموضوع تشكل شرطا للكتابة حوله، ومن البدهي أن كل واحد منا يعرف ذاته والمواضيع التي تشغلها، ولذلك سيكون فعل الكتابة حول الذات بالنسبة للتلميذ أيسر مادامت تتوفر لديه دراية بأمر أو حدث أو حالة أو موقف أو إحساس.
2- "بويا" وحميمية الكتابة السردية حول الأب
تشكل الكتابة السردية مجالا رحبا للكتابة عن الذات وما يشغلها، خاصة منها تلك التي تتعلق بكتابة اليافعين والشباب التي تنطلق من تجربة الذات داخل العائلة، الأسرة على وجه التحديد، مما يضع هذا النوع في إطار الكتابة المرتبطة بموضوعات تتعلق بالانتساب العائلي: الأب، الأم، الابن، الأخ، الأخت، الجد، الجدة، العم، الخال.. إلخ، اعتبارا للعلاقة التي تشيدها الذات داخل فضاء العائلة وتأثيراتها العاطفية والاجتماعية عليها.
ضمن هذا الإطار يأتي الإصدار الأدبي المتميز لتلامذة الثانوي التأهيلي: "بويا" بإشراف وتنسيق الأستاذ محمد محي الدين ليقدم نموذجا رائدا في تجربة الكتابة السردية لليافعين حول "الأب"، ويؤكد قيمة صنعة الكتابة الأدبية بالمؤسسات التعليمية ودورها في استشراف أدباء المستقبل الذين ستكون لهم بصمة في الصناعة الثقافية داخل الوطن مع الاستمرار في خوض تجربة الكتابة لدى هؤلاء اليافعين بآفاقها الرحبة.
"بويا" هو العنوان الذي تم اختياره لتجربة الكتابة "الجماعية" حول الأب، وهو عنوان يحمل من الحميمية ما يوطد العلاقة بين الأب والابن/البنت حين لا يكتفي بالإشارة إلى شخص الأب وإنما يتم ربطه بياء الامتلاك/ ذات المتكلم: إنه أبي أنا وليس أب أحد غيري؛ هكذا يختزل لفظ "بويا" هذه الجملة.
صحيح أن دفتي الكتاب جمعت نصوصا من محكي الأب لخمسة وستين تلميذا وتلميذة، وحّد بينها الموضوع، لكن تباينت الحالة العاطفية التي تعبر عنها تجاه الأب تبعا لتجربتها معه، كما اختلفت لغة الحكي وطريقة البناء السردي من نص إلى آخر. ولعل ذلك يضفي بناء فنيا وجماليا خاصا على النصوص، ويسهم أيضا في تتبع خصائص الكتابة السردية فيها من زوايا تقارب حضور الأب بوصفه شخصية تُبَئِّر عليها الذاتُ الكاتبة المحكي، وتكشف بالتالي صورة الأب ليس في النص الواحد فقط، وإنما في نموذج مصغر لمجتمعٍ تعكسه مجموع تلك النصوص، ويتعلق الأمر هنا بمحكيات الانتساب العائلي عن الأب في المجتمع البيضاوي الذي تمثله هذه النصوص.
يمكن أن أعرض في هذا الإطار بعضا مما تميزت به نصوص محكي الأب في كتاب "بويا" من الخصائص على سبيل التمثيل فقط، وإلا فإن الكتاب يمثل في الحقيقة موضوعا لمؤلف أو مؤلفات نقدية تقدم دراسة مستفيضة لمختلف النصوص السردية المضمنة فيه على مستوى الموضوعات وعناصر البناء السردي:
أ- الوعي بحميمية العلاقة مع الأب: عبرت المحكيات السردية عن وجود الأب داخل الأسرة في صور متنوعة، انطلقت من مرجعية الواقع الذي تعيشه الذات/ الطفل داخل الأسرة من جهتي حضور هذا الأب أو غيابه، مع ما ينتج عن ذلك من تمثلات تتعلق ب: وضعية الأب، العلاقة معه، سلطة الوصاية، الحاجة إلى حمايته.
ب- اشتغال الذاكرة: بالرغم من أن نصوص المحكي حول الأب صادرة عن يافعين في مرحلة عمرية ما زالت بكرا يفترض معها أن تكون الأحداث غير بعيدة زمنيا عن تجربة الذات، فإن هذه النصوص تجعل العودة إلى موجهات الصورة المرسومة عن الأب قائمة عبر فعل التذكر، حيث يظهر توظيفها الذاكرة بانتقائية تتناسب مع طبيعة الحميمية المودعة في القيم التي تعكسها تلك الصورة المشكّلة عن الأب.
ت- مرجعية فضاء البيت: مثل البيت الفضاء الذي دارت فيه أحداث كثير من النصوص المتعلقة بمحكي الأب، وهو فضاء بقدر ما يمثل ضرورة لتحديد مجرى الأحداث، فإنه يعكس الوعي بالقيم الأسرية التي تتبدى من خلال سلطة الوصاية الأبوية والمسؤولية الملقاة على عاتقها، مما يستلزم معه استشعار وظيفية حضور الأب في هذا الفضاء، ليس في بعده الاجتماعي فقط، ولكن من حيث أبعاده النفسية المقترنة بالشعور بالحماية والعناية والاهتمام والأمان.
ح- لغة سردية عاطفية: لغة اليافعين قريبة جدا من أحاسيسهم، تكشف عن حالتهم النفسية، وتعكس صدقية مشاعرهم، لذلك تميزت بحميمية الخطاب الذي بنيت عليه، فشكلت صورا عن شخصية الأب المغربي بالاستناد إلى تجارب واقعية مثلت منطلقا للعوالم السردية المشيدة في كل محكي، والمعبر عنها بلغة البوح العاطفية التي غالبا ما تفرض سلطة الوصاية الأبوية على اليافع كتمانها، غير أنها وجدت سبيلها المتحرر في هذه النصوص البديعة.
إن كتاب "بويا"، بالمحكيات التي أبدعتها أقلام تلميذات وتلاميذ يافعين، يشكل، بحق، تجربة فريدة ومتميزة حُقّ لها أن تلقى تقديرا واهتماما خاصين؛ وإنها لتجربة تفتح الباب أمام مشاريع نصوص إبداعية أخرى تتعلق بمحكيات الانتساب العائلي: الأم، الأب، الجد، الأخ، الأخت...؛ ولم لا الانفتاح على الانتساب التربوي/ المدرسي بالشكل الذي يتيح لنا الاستمتاع بقراءة محكيات عن الأستاذ، الأستاذة، التلميذ/التلميذة... وهي نصوص ستقدم بلا شك خدمة جليلة لمتتبعي الشأن التربوي ومسؤوليه لرصد العلاقات المؤسسة داخل السياق المدرسي من زوايا إبداعية حكائية بصوت المتعلم(ة)/ التلميذ (ة).