

الكرم المجاني
ثمة قصة شعبية معروفة عن الأخ الذي زار شقيقته المتزوجة، وقد حضر بدون هدية.
فاعتذر لها قائلاَ إنه كان يريد أن يحضر معه خيارًا ناضرًا طريًا ومميزًا رآه في السوق.
قالت له: بارك الله فيك! يريدون سلامتك، لا حاجة لهم يا أخي!
فيقول لها: لا، دعيهم يأكلوا!
تعيد جملتها فيعيد، لا والنبي، صحتين على قلوبهم!
ومن رواها عن البرتقال قال: خليهم يقشّروا!
وقد قرأت لصديقي سهيل كيوان القصة في رواية أخرى عن قصب السكر بدل الخيار:
"هل تذكرون أعواد القصب- مَصّ!
كان المرحوم أبو حسن ناصر في عكا، وعاد صفر اليدين وخالي الوفاض بسبب الفقر، ولكنه راح يتغزل بالقصب مص الذي رآه:
أما شو هالقصب مص في عكا يا أم حسن، كنت ناوي أجيب للأولاد يمصوا!
– بلاش يا بو حسن شو بدهم بالقصب مص!
فرد أبو حسن: ليش بلاش! خليهم يمصوا يا أم حسن!
هي تقول بلاش يا بو حسن! وهو يرد بحرارة: ولك خليهم يمصوا وينبسطوا.
وربما تكون الرواية في صور مختلفة، تدل على بخل البطل أو على فقره المدقع– كما هي في رواية سهيل.
أعود بكم إلى الشعر القديم لنقرأ نماذج من هذا الكرم المجاني:
قال أبو نواس يصف الكرم الخيالي الدال على البخل:
أبو نوح دخلت عليه يومًافغدّاني برائحة الطعاموقدم بيننا لحمًا سمينًاأكلناه على طبق الكلامفلما أن رفعت يدي سقانيكؤوسًا خمرها ريح المُدامفكان كمن سقى الظمآن آلاًوكنت كمن تغدى في المنام
ويبدو أن أبا نواس كان يجد الكرم مجرد كلام لدى الكثيرين، فكثرت قصائده في هذا الباب:
يقول:
على خبز إسماعيل واقيةُ البخلفقد حل في دار الأمان من الأكلوما خبزه إلا كآوى يرى ابنهولم يُرَ آوى في الحزون ولا السهلوما خبزه إلا كعنقاءِ مُغرِبٍتصوّر في بسط الملوك وفي المثليحدّث عنها الناس من غير أن يرَواسوى صورةٍ ما إن تمرّ ولا تحلي
بالطبع ليس هناك من (آوى) ولا (عنقاء مغرب) في الواقع، فخبز إسماعيل يُسمع به ولا يُرى.
نمضي مع أبي نواس وصاحبه أبي الفضل في صورة تبعث على الابتسام:
رأيت الفضل متكئًايناغي الخبز والسّمكافقطّب حين أبصرنيونكّس رأسه وبكىفلما أن حلفت لهبأني صائمٌ ضحكا
وقال أيضاً في غيره:
رأيت أبا زرارةَ قال يومًالحاجبه وفي يده الحسامُلئن وُضع الخُوانُ ولاح شخصلاختطفنَّ رأسَك والسلامُ
لنقم بجولة أخرى مع شعراء آخرين يصفون البخيل بصور فنية أخرى:
قال أبو الوأواء الدمشقي:
إذا كُسر الرغيف بكى عليهبُكا الخنساء إذ فُجعتْ بصخرودون رغيفه قلعُ الثناياوضربٌ مثلُ وقعةِ يوم بــدر
ولمنصور الفقيه:
إذا تغدَّوا ربطوا قطَّهمُبخلاً بما تطرحه المائدهما عرضت قطُّ لهم تخمةًولا تشكَّوا معدة فاسده
وله أيضًا:
أتيت عمْرًا سحرًافقال: إنّي صائمفقلت: إنيَ قاعدٌفقال: إني قائمفقلت: آتيك غدًافقال: صوميَ دائم
قال الشاعر يذم بخيلاً:
غضب الصوليُّ لمّاكسر الضيف وسمىثم حين المضغ منهكاد أن يتلف غمّــــاقال للضيف ترفقشُمَّ ريح الخبز شــــمّا
واغتنم مدحيَ! قال الضيف:
بل أكلاً وذمّا
وقال أحد الشعراء:
تراهم خشية الأضياف خُرسايقيمون الصلاة بلا أذان
بل وجدنا من يهرب من منزله كما ورد في (العقد الفريد) في باب البخلاء- ج6، ص 185:
قال الهيثم بن عدي: نزل بابن أبي حفصة ضيف باليمامة، فأخلى له المنزل، ثم هرب عنه مخافة أن يلزمه قِراه تلك الليلة، فخرج الضيف، فاشترى ما يحتاجه، ثم رجع وكتب له:
يأيها الخارج من بيتهوهاربًا من شدة الخوفضيفك قد جاء بزادٍ لهفارجع تكن ضيفًاعلى الضيف
ويقول جَحْظة البرمكي وهو يطمئن كسابقه:
تبرّم إذ جئته للسلاموأبدى ليَ الكره ّلما دخلــــتُفقلت له لا يرُعْك الدخولفوالله ماجئت حتى أكلتُ
وله:
بتُّ ضيفًا لهشامفشكا الجوع عدِمتهْوبكى لا صنع اللهله حتى رحمته
نمضي في وصف استحالة القِرى:
قال دِعْبِل الخُزاعي:
لو عبر البحر بأمواجهفي ليلة مظلمة بــــــاردةوكفه مملوءة خردلاما سقطت من كفه واحدة
وقال دعبل أيضًا:
نوالك دونه شوك القتادوخبزك كالثريا في البـــــــعادفلو أبصرت ضيفا في مناملحرّمت الرقاد إلى المعاد
قال آخر:
طعامه النجم لمن رامهوخبزه أبعد من أمسهكأنّه في جوف مرآتهيرى ولا يطمع في لمسه
قال آخر:
إن كنت تطمع في كلامهفارفع يمينك عن طعامهسيّان كسرُ رغيفهأو كسر عظمٍ من عظامه
ومما يبعث البسمة كذلك هذا الوصف:
يا قائمًا في داره قاعدًامن غير معنى ولا فائدهقد مات أضيافك من جوعهمفاقرأ عليهم سورة المائده
* نماذج أخرى تجد في (العقد الفريد ج6، م.س ) وفي كتاب الأبشيهي (المستطرف) الباب الرابع والثلاثين- باب البخل، ص228 وما بعدها.
وأختم ببعض ما هجا به جرير بني تغلب:
قوم إذا أكلـوا أخفَـوا كلامَهمـوواستوثقوا من رِتاج الباب و الدارِقوم إذا نبح الأضيافَ كلبُهمقالوا لأمهمِ بولي على النارفتمنع البَول شحًا أن تجود بهولا تجود به إلا بمقدار
قيل إن هذا الهجاء فيه يظهر في عشرة مواطن، وهو من أقذع الشعر.