

الدين والشعر
للتيار الديني المستجد أثره الاجتماعي وطموحاته السياسية .
وبقدر الحماسة والاندفاع له كان من المفروض أن يواكب تطلعاته أدب – وبالأخص شعر – يعبر عنه بزخم مترجمًا المشاعر والمواقف والعواطف .
ولكنا نرى أن شعر هذا التيار بالذات منحسر معدوم ، وإن وُجد فهو هزيل شاحب .
فما سر ذلك ؟
ألأن الدين في طبعه محافظ على تقاليد لا يخرج منها إلا ليعود إليها ؟ والشعر من طبعه الطموح والجموح والتوثب ؟
أم أن السجية الصادقة التلقائية هي التي تنبت الشعر ، وقد يكون في التأطير الديني قولبة ونمذجة واستعادات ؟
ومهما تكن الإجابة فإن النتيجة التي نطالعها هي : أن أغلب ما كتب من شعر يدور في أسلوب الشعر العمودي المقلد ، وفي كلمات ملوكة مطروقة . ولنسق مثلا من ( شعر بعضهم ) :
أيها الصائم هذا شهره كن جوادا مكثرًا في العطيه
لا تطع امّارة شيطانها مارد يقظان يغري بالرزيه
يا بني الإسلام أدوا حقه إنما أنتم خير البريه
لقد فطن الجرجاني في ( الوساطة ) إلى أن الدين ليس مقررًا في مقياس الشاعر ، وإلا ( لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين ، ويحذف ذكره إذا عدّت الطبقات ، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ....... ولكن الأمرين متباينان ، "... والدين بمعزل عن الشعر ...." ( الوساطة .... ص 64 ) .
ونحن لو عدنا إلى الشعر القديم لوجدنا حسانًا شاعر الرسول ، ولم يكن شاعرًا مجليّـا ، وحتى الشعراء الذين ذادوا عن الوطن ضد الحملات الصليبية لم يثبت شعرهم في ميزان النقد والحفظ . وقراءة في كتاب ( الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية مصر والشام ) للدكتور أحمد أحمد بدوي ، فسنجد هذا الاتجاه العام للزخرف والزينة ، ويسقط الكثيرون منه في تكلف ممقوت ثقيل .
ويبقى السؤال يلح : هل يتعارض الشعر والدين ؟
وقبل أن نستبق الإجابة يتبادر إلى ذهننا الشعر الصوفي . فالصوفيون أبدعوا في تناولهم الموضوعات الدينية ، وتجرأوا على الترميز من واقع المرأة والخمرة ، فالإلهام وخلق الصور والاسترسال – كل ذلك دعاهم إلى الدخول في محراب الشعر الصافي ، كما يتجلى في شعر الحلاج ورابعة العدوية ، ولنقرأ نموذجًا من التوحد الرائع – الذي نجد له أصولاً في شعر جلال الدين الرومي ما يقوله محيي الدين بن العربي :
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه ، فالحب ديني وإيماني
مثل هذا الأدب يمتاز بروحانيته وصفائه ، كما أن فيه غموضًا تبعًا للمقام والحال . إن عالم الشعر الصوفي مفعم بالخيال ، ولكل ظاهر فيه باطن ، ولكل شيء إشارة ينطلق من مفهوم خاص للعقل بأنه يحجب النفس عن إدراك الجمال . لذا قويت فيه ملكة الذوق أو التذوق ، وبقي أثره .
نخلص إلى القول إن الشعر الجدير بتسميته شعرًا لا يتأتى من نفوس ركنت إلى التقليد والقبول المزمن منهجًا وممارسة ، وإلى أن الشعر يمكن أن يثبت في أي أرض ، لكنه يبحث عن سماء يبسق فيها هذا النبات ونجمة الشعر ، فدعوا أصحاب الذائقة إلى متابعة حركتها وتوترها بوميضها المستفز والمستوفز إلى آفاق أرحب .
لنعد إلى السؤالين اللذين طرحتهما في بداية المقالة ، فلعل في السؤال جوابًا .