

أنا القاتل
صورتها السابحة في هالة من الوفاء الأبدي تقتحم سور مخيلته وديعة في وداعة ملاك ، تنقر باب ذكرياته نقرا لتنزل ضيفة معززة تطفح بتهاليل اللقاء ، سبحان الله ، لقد وهبها المقتدر الوهاب روعة الجمال ، وطيبة الفؤاد ، وحلاوة الخلق.
تجرفه أصداء الذكريات البعيدة كما يجرف الطوفان المباغت ما عز وهان على الأرض ، تلسعه نيران الألم من غير رأفة به ، توخزه إبر الندامة حتى العظم ، يئن بصمت مشروخ موحش ، ويترنح كقشة لا معنى لها في خضم يم هائج مائج ، لا حيلة له في التصدي والمقاومة ، ضعيف حتى النخاع ، مبتور الإرادة ، مكسور الخاطر ، مشتت الأنفاس ، يغوص كل حين في قلب معاناته الحقيقية .
تخيل رشا تهوي من الطابق الرابع ، صرخ مفزوعا وقد عاودته تلك النوبة المستعصية : أنا القاتل ، أنا القاتل .
نشبت فوضى عارمة داخل القسم ، واكتست الوجوه بالدهشة ..
انفجر الأستاذ قائلا : السكوت من فضلكم ، زميلكم يمر بفترة عصيبة فما عليكم إلا بمؤازرته ، والشد على يده حتى يجتاز هذه المرحلة الخطرة بسلام .
ماكاد الأستاذ يتمم إسداء نصيحته حتى هب عماد منتصبا من مقعده كالوتد ، وركض خارج القسم دون وعي كأنما يود الانتحار هو الآخر .
حدثها عن نفسه بكل وضوح ، عن طفولته ، وعن أشياء أخرى ، وعن طموحاته ، و.....، و.....، و......
لم تنبس ببنت شفة ، بل ظلت تصغي إليه بشغف كبير ، وتبتسم بود ورضا .
صمت هنيهة ، ثم قال : منذ أن عرفتك لم يطرق أذني صوتك ، تلتزمين الصمت على الدوام ، أتخفي عني شيئا ؟
فجأة انتحرت ابتسامتها ، وتلاشت كحلم ، واغرورقت عيناها الزرقاوان دموعا .
ـــ أنت تعدمينني بصمتك المخيف هذا .
نطقت بعد جهد جهيد : أنا .....، أعا......أنا.....
انقطع صوتها المتذبذب ، وغاب بين طيات الشجن .
ـــ ماذا تريدين أن تقولي ؟ تكلمي .
أخرجت ورقة صغيرة كانت قد خبأتها في صدرها ، ووضعتها في راحة يده وهي ترتجف .
انحنى على الورقة ، قطب حاجبيه وهو يقرأ العبارة التالية : أعاني صعوبة في النطق ، هذه العقدة تلازمني منذ نعومة أظافري .
جحظت عيناه ، كادت الصدمة تخرسه عن الكلام ، وتفقده توازنه ، ركض بعيدا بعيدا حتى توارى عن الأنظار .
ذاع الخبر المؤلم في سرعة البرق ، رشا ألقت بنفسها من الطابق الرابع ، رشا انتحرت ، رشا ودعت الحياة دون رجعة ، وراء انتحارها المريع دافع قوي .